حماية الأرواح لا «تخصيب» السلاح!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية ليلة 5 يونيو (حزيران) الحالي، عشية عيد الأضحى، هي الأوسع والأعنف منذ اتفاق وقف النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. طال الاستهداف مباني في 4 مناطق دفعة واحدة، بشكل أعاد إلى الأذهان كل التوحش الإسرائيلي ونهج فرض عقوبة جماعية على اللبنانيين. سدت الطرقات ألوف الأسر وهي تندفع إلى الفرار بعيداً عن المناطق المستهدفة، التي ادعى العدو أنها تضم مخازن أسلحة لـ«حزب الله»، وأكثر من ذلك، مشاغل تجميع طائرات مسيَّرة!

لا يمكن وصف مستوى رعب المواطنين ولا الذعر الذي ساد منطقة تتميز بأعلى كثافة سكانية، ولا الخوف الذي عمّ لبنان من احتمال تجدد الحرب الإسرائيلية عليه، مع الوضع في الحسبان أن إعلام العدو كان منذ أيام يضج بتسريبات تدعي تعزيز «الحزب» لقدراته العسكرية، وقد ترافقت مع كشف السلطات السورية عن أكثر من محاولة لنقل أسلحة إلى لبنان، قالت إنها كانت مخزنة في مناطق تحكَّم فيها «فيلق القدس» الإيراني. وقد ضاعف حجم المخاوف إصرار العدو على منع الجيش اللبناني من الوصول إلى المناطق المستهدفة لتفتيشها بالتوافق مع لجنة الإشراف الدولية، بما يمنع الضربة العسكرية التي تمثل خرقاً متعمداً لاتفاق وقف النار.

بعد حرب «الإسناد» التي دمرت لبنان واستدرجت الاحتلال مجدداً، لم يعد «حزب الله» تلك القوة المناط بها حماية الهيمنة الإيرانية، فقد تلقى ضربات قاصمة أفقدته قياداته العسكرية، وكانت ضربة «البيجر»، 17 سبتمبر (أيلول) 2024، قد أفضت إلى هزيمته قبل أن يطلق أي طلقة جدية، وتوجت تلك الهزيمة بقتل زعيمه حسن نصر الله في 27 من الشهر نفسه، أي بعد 10 أيام على «النداء القاتل». المتبقي من هذه الميليشيا اليوم لا يمت كثيراً لما كان عليه من قوة إقليمية بعد حرب يوليو (تموز) 2006، زمن قاسم سليماني ووجود ألوف المستشارين من جنرالات «الحرس الثوري» في المنطقة، والتباهي بأن النظام الإيراني يسيطر على 4 عواصم عربية.

بقي خطاب إنكار لا ينتمي إلى الواقع، يرمي إلى إعادة تدوير أوهام من نوع أن «المقاومة» قادرة على الحماية والردع، وهي مهام لا طاقة للدولة على القيام بها. في حين أسقطت الحرب سرديات الـ100 ألف صاروخ و100 ألف مقاوم، مع عجز مدوٍ عن حماية حملة السلاح وقادته، وعجز مطلق عن الرد على العدو، الذي يمعن في اصطياد الكادرات العسكرية وتصفيتها يومياً، فكيف عن ادعاء ردع إسرائيل وحماية لبنان!

غير أن الأمر الأكثر خطورة فهو تأثير تداعياته على المسار العام للبنان، وخاصةً مسار العهد والحكومة. فبعد 5 أشهر على انتخاب الرئيس عون و4 أشهر على تأليف حكومة الرئيس سلام، تظهر التطورات وهناً كبيراً في المسار الذي خسر «مومنتم» شعبياً رافقه، هو المتعلق بكيفية التعاطي مع العنوان السيادي الأبرز: جمع السلاح اللاشرعي وحصره بيد الدولة، تطبيقاً لاتفاق الطائف وخطاب القسم والبيان الوزاري واتفاق وقف النار. ولم يعد سراً الافتقار إلى استراتيجية تؤكد وحدة السلطة في معالجة ملف السلاح، الميليشياوي والفلسطيني، الذي يرتبط بإنجازه كل المسار اللاحق للبلد، بدءاً من استكمال إعادة بناء الدولة إلى ملف إعادة الإعمار لتأمين عودة مستدامة لعشرات ألوف الأسر المهجرة، كما ترسيخ الأمن على كل الحدود ودوره في إنهاء الابتزاز المتكرر بزعزعة السلم الأهلي!

رئيس الحكومة تحدث عن تفكيك 500 موقع جنوب الليطاني ولا إشارة إلى شماله. هناك أكثر من قولٍ تحت عنوان حصر السلاح. أما رئيس البرلمان فيتصرف وكأن عقارب الزمن توقفت قبل 8 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يوم ورّط «حزب الله» البلدَ في الحرب. إن إعلان التمسك بالسلاح والتهديد بـ«خيارات أخرى»، في حين العجز عن استخدامه ضد العدو مؤكد، يفضي بأن له مهمات أخرى. بوهج السلاح انتزع «الثنائي المذهبي» ميزات في مؤسسات الدولة ومواقع القرار، ويراهن على السلاح لحمايتها وتعزيزها.

يطبق العدو الإسرائيلي بقيادة مجرم الحرب نتنياهو نظرية جابوتنسكي حول «الجدار الحديدي»، ومفادها «لا شيء مع العرب سوى العداء»، ويراهن عليها لمواجهة تنامي عزلته الداخلية وملاحقته قضائياً، فيستفيد من رعونة المواقف اللامسؤولة من «حزب الله» التي تزعم استعادة الزخم العسكري والقدرة، فيطلق نتنياهو التحذيرات بأن «الحزب» يستعد لحرب جديدة ليشد العصب الصهيوني حول توجهاته الإجرامية. وكم هو الوضع سريالي لأنَّ الكل يعلم أن «الحزب» عاجز عن الانتقال إلى جنوب الليطاني، في حين عمقه الاستراتيجي السوري طويت صفحته وإيران بعيدة، والأكثرية الساحقة من اللبنانيين تريد حصر السلاح بيد الدولة.

لا يملك لبنان ترف الوقت ولا خيارات عدّة أمام السلطة. ولا أولوية تفوق حماية الأرواح ومسار التعافي؛ ما يحتم ترك سياسة شراء الوقت والمحاباة والتغاضي عن محاولات «تخصيب» السلاح وبقائه!


حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».

قراءة المزيد

الإمساك بالحزب الماسكي الوليد!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

لا نعلم يقيناً عن الفصل الأخير لدراما ترمب وماسك، اللذين قلبا ظهر المجن بعضهما لبعض، وكان المدشن للحرب الكلامية هو «قارون» العالم الرقمي والفضائي والأرضي، إيلون ماسك.

لم يمتد حبل الود طويلاً، فانقطعت المودة، و«هان الود عليه».

ما يهمني في ضجيج هذا العراك المثير بين الرجلين هو دعوى إيلون ماسك أن هناك حاجة إلى حزب سياسي جديد في الولايات المتحدة، وفقاً لوكالة «رويترز».

جاء ذلك بعد يوم من سؤاله في استطلاع رأي لمتابعيه على موقع «إكس» عمَّا إذا كانت هناك حاجة لحزب يمثل «80 في المائة في الوسط».

ربما يقال إن ماسك غير جاد وليس «ماسكاً» بالمقترح، والمسألة ليست سوى نوع من «الكيد» والتنكيد على ترمب، خصم اليوم وحبيب الأمس.

نتذكر أن البيت الأبيض أعلن أن ترمب لا يعتزم التحدّث إلى ماسك، وأنه قد يتخلى عن سيارة «تسلا» حمراء، إثر سجال حاد بين الرجلين. وأفاد مسؤولون «وكالة الصحافة الفرنسية» بأن ماسك طلب الاتصال، لكن الرئيس ترمب غير مهتم بذلك... خلاص «هان الرد عليه»!

أقول إن مقترح إيلون ماسك بشأن الحاجة لتكوين «تيار ثالث» في أميركا بين الجمهوريين والديمقراطيين، يتزامن مع إعلان كارين جان بيير، المتحدثة السابقة باسم البيت الأبيض، تحت ولاية الديمقراطي الأوبامي، جو بايدن، عن استقلالها واستقالتها من المعسكر الجمهوري وانتهاجها مساراً مستقلاً سياسياً.

لا نعلم عن جدوى وجدية هذا المسار المقترح، لكن الأكيد أن أميركا والعالم كله يمر بحالة انقسام سياسي حاد، ومزاج متعكر، وشهوة عارمة لنفي وشطب الآخر، ورفض أي منطقة وسطى، «لا يوجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار»، كما قال نزار قباني!

انظر، على وجه المثال، في سلوكيات وأقوال النشطاء على منصات «السوشيال ميديا»، حروب نفي متبادلة من الكل ضد الكل... والنماذج - للأسف - كثيرة وتصل أحياناً لنوع من السفه وقصف متبادل من قذائف البذاءة والإعدام المعنوي.

أظن أن العالم كله بحاجة لتيار سياسي ثقافي فكري جديد، يضخ أكسجيناً جديداً... فهل تهب نسائم هذا التيار الهوائي الجديد؟!


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

شجر الظلال

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

للمرة الأولى منذ بدأت القراءة، تقع أمامي (في الإنجليزية) هذه العبارة: أشجار الظلال، أو أشجار الفيء، أو شجر الألفباء. والمقصود بها، الشجر الذي يورق عشرات السنين، ويعطي الحياة للأرض، ويأخذ منها حياته. ويوفر الخشب والحطب، ويرسل الهواء والريح، ويوزع الخصب والنسيم، لكنه لا يثمر ويشم.

لماذا لا يثمر؟ لأنه يكفيه ما يقدّم مما تقدم. بعدما قرأت العبارة انتبهت للمرة الأولى إلى شجرتين قبالة شرفتي: واحدة شجرة سرو، والثانية لا أعرف لها اسماً. لكنني منذ الآن سوف أسميها شجرة فيء. أو شجرة ظل.

نبتتا، منذ فترة، بكل حرية أمام المنزل. تزدادان نمواً كل عام بما تنهلان من الطبيعة وفصولها وطاقاتها. كل صباح تملأ العصافير الصغيرة والكبيرة شجرة السرو. تنتقل فوق الأغصان مثل المجانين، تتناول فطورها في نهم أعلى الشجرة وأسفلها. وما من عصفور واحد يحط على أغصان جارتها، شجرة الظل. هكذا من الصبح إلى المساء. صيفاً وبعض الشتاء. فالشجرة المورقة تتعرى تماماً في البرد، بينما جارتها السروة فصولها جميع الفصول. توزع المحاصيل في جميع الفصول، وتملأ المناقيد فرحاً، والأجنحة الصغيرة رفرفة.

لا سباق بين الاثنتين إلا في طلب الارتفاع. السروة تحلق في فضائها، تحمل البذور وتغني لها. وشجرة الظل تتظاهر بأن الأمر لا يعنيها. شجرتان: مثل الناس. طبقات طبقات، وفئات فئات. مثمرون وطفيليون وعلى الأقل، مورقون. لكن الناس تتقاتل والشجر لا يقاوم إلا الريح والعاصفة. استمرت إحدى العواصف في أميركا اللاتينية خمسة أشهر. تعصف، وترعد، وتقصف، وتزبد، وتهطل الأمطار غزيرة كاسحة، وتحمل السحب السوداء، ثم تبرق بها برقاً رهيباً، وتدوي دويّاً مهولاً. وظن الخائفون المتضرعون أنها الساعة نفسها، وليست أشراطها، أو تناثرها، وتدفقت المياه جداول، وتجمعت بحيرات حمراء موحلة. وقال المتقدمون إن مطر هذا الفيضان سوف يكون أكثر قتلاً من الجفاف الذي ضرب كاراكاس، وجعل الجرذان تملأ المدينة بحثاً عن نقطة ماء. أو شبهاً له.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

شجر الظلال

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

للمرة الأولى منذ بدأت القراءة، تقع أمامي (في الإنجليزية) هذه العبارة: أشجار الظلال، أو أشجار الفيء، أو شجر الألفباء. والمقصود بها، الشجر الذي يورق عشرات السنين، ويعطي الحياة للأرض، ويأخذ منها حياته. ويوفر الخشب والحطب، ويرسل الهواء والريح، ويوزع الخصب والنسيم، لكنه لا يثمر ويشم.

لماذا لا يثمر؟ لأنه يكفيه ما يقدّم مما تقدم. بعدما قرأت العبارة انتبهت للمرة الأولى إلى شجرتين قبالة شرفتي: واحدة شجرة سرو، والثانية لا أعرف لها اسماً. لكنني منذ الآن سوف أسميها شجرة فيء. أو شجرة ظل.

نبتتا، منذ فترة، بكل حرية أمام المنزل. تزدادان نمواً كل عام بما تنهلان من الطبيعة وفصولها وطاقاتها. كل صباح تملأ العصافير الصغيرة والكبيرة شجرة السرو. تنتقل فوق الأغصان مثل المجانين، تتناول فطورها في نهم أعلى الشجرة وأسفلها. وما من عصفور واحد يحط على أغصان جارتها، شجرة الظل. هكذا من الصبح إلى المساء. صيفاً وبعض الشتاء. فالشجرة المورقة تتعرى تماماً في البرد، بينما جارتها السروة فصولها جميع الفصول. توزع المحاصيل في جميع الفصول، وتملأ المناقيد فرحاً، والأجنحة الصغيرة رفرفة.

لا سباق بين الاثنتين إلا في طلب الارتفاع. السروة تحلق في فضائها، تحمل البذور وتغني لها. وشجرة الظل تتظاهر بأن الأمر لا يعنيها. شجرتان: مثل الناس. طبقات طبقات، وفئات فئات. مثمرون وطفيليون وعلى الأقل، مورقون. لكن الناس تتقاتل والشجر لا يقاوم إلا الريح والعاصفة. استمرت إحدى العواصف في أميركا اللاتينية خمسة أشهر. تعصف، وترعد، وتقصف، وتزبد، وتهطل الأمطار غزيرة كاسحة، وتحمل السحب السوداء، ثم تبرق بها برقاً رهيباً، وتدوي دويّاً مهولاً. وظن الخائفون المتضرعون أنها الساعة نفسها، وليست أشراطها، أو تناثرها، وتدفقت المياه جداول، وتجمعت بحيرات حمراء موحلة. وقال المتقدمون إن مطر هذا الفيضان سوف يكون أكثر قتلاً من الجفاف الذي ضرب كاراكاس، وجعل الجرذان تملأ المدينة بحثاً عن نقطة ماء. أو شبهاً له.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

شجر الظلال

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

للمرة الأولى منذ بدأت القراءة، تقع أمامي (في الإنجليزية) هذه العبارة: أشجار الظلال، أو أشجار الفيء، أو شجر الألفباء. والمقصود بها، الشجر الذي يورق عشرات السنين، ويعطي الحياة للأرض، ويأخذ منها حياته. ويوفر الخشب والحطب، ويرسل الهواء والريح، ويوزع الخصب والنسيم، لكنه لا يثمر ويشم.

لماذا لا يثمر؟ لأنه يكفيه ما يقدّم مما تقدم. بعدما قرأت العبارة انتبهت للمرة الأولى إلى شجرتين قبالة شرفتي: واحدة شجرة سرو، والثانية لا أعرف لها اسماً. لكنني منذ الآن سوف أسميها شجرة فيء. أو شجرة ظل.

نبتتا، منذ فترة، بكل حرية أمام المنزل. تزدادان نمواً كل عام بما تنهلان من الطبيعة وفصولها وطاقاتها. كل صباح تملأ العصافير الصغيرة والكبيرة شجرة السرو. تنتقل فوق الأغصان مثل المجانين، تتناول فطورها في نهم أعلى الشجرة وأسفلها. وما من عصفور واحد يحط على أغصان جارتها، شجرة الظل. هكذا من الصبح إلى المساء. صيفاً وبعض الشتاء. فالشجرة المورقة تتعرى تماماً في البرد، بينما جارتها السروة فصولها جميع الفصول. توزع المحاصيل في جميع الفصول، وتملأ المناقيد فرحاً، والأجنحة الصغيرة رفرفة.

لا سباق بين الاثنتين إلا في طلب الارتفاع. السروة تحلق في فضائها، تحمل البذور وتغني لها. وشجرة الظل تتظاهر بأن الأمر لا يعنيها. شجرتان: مثل الناس. طبقات طبقات، وفئات فئات. مثمرون وطفيليون وعلى الأقل، مورقون. لكن الناس تتقاتل والشجر لا يقاوم إلا الريح والعاصفة. استمرت إحدى العواصف في أميركا اللاتينية خمسة أشهر. تعصف، وترعد، وتقصف، وتزبد، وتهطل الأمطار غزيرة كاسحة، وتحمل السحب السوداء، ثم تبرق بها برقاً رهيباً، وتدوي دويّاً مهولاً. وظن الخائفون المتضرعون أنها الساعة نفسها، وليست أشراطها، أو تناثرها، وتدفقت المياه جداول، وتجمعت بحيرات حمراء موحلة. وقال المتقدمون إن مطر هذا الفيضان سوف يكون أكثر قتلاً من الجفاف الذي ضرب كاراكاس، وجعل الجرذان تملأ المدينة بحثاً عن نقطة ماء. أو شبهاً له.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

شجر الظلال

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

للمرة الأولى منذ بدأت القراءة، تقع أمامي (في الإنجليزية) هذه العبارة: أشجار الظلال، أو أشجار الفيء، أو شجر الألفباء. والمقصود بها، الشجر الذي يورق عشرات السنين، ويعطي الحياة للأرض، ويأخذ منها حياته. ويوفر الخشب والحطب، ويرسل الهواء والريح، ويوزع الخصب والنسيم، لكنه لا يثمر ويشم.

لماذا لا يثمر؟ لأنه يكفيه ما يقدّم مما تقدم. بعدما قرأت العبارة انتبهت للمرة الأولى إلى شجرتين قبالة شرفتي: واحدة شجرة سرو، والثانية لا أعرف لها اسماً. لكنني منذ الآن سوف أسميها شجرة فيء. أو شجرة ظل.

نبتتا، منذ فترة، بكل حرية أمام المنزل. تزدادان نمواً كل عام بما تنهلان من الطبيعة وفصولها وطاقاتها. كل صباح تملأ العصافير الصغيرة والكبيرة شجرة السرو. تنتقل فوق الأغصان مثل المجانين، تتناول فطورها في نهم أعلى الشجرة وأسفلها. وما من عصفور واحد يحط على أغصان جارتها، شجرة الظل. هكذا من الصبح إلى المساء. صيفاً وبعض الشتاء. فالشجرة المورقة تتعرى تماماً في البرد، بينما جارتها السروة فصولها جميع الفصول. توزع المحاصيل في جميع الفصول، وتملأ المناقيد فرحاً، والأجنحة الصغيرة رفرفة.

لا سباق بين الاثنتين إلا في طلب الارتفاع. السروة تحلق في فضائها، تحمل البذور وتغني لها. وشجرة الظل تتظاهر بأن الأمر لا يعنيها. شجرتان: مثل الناس. طبقات طبقات، وفئات فئات. مثمرون وطفيليون وعلى الأقل، مورقون. لكن الناس تتقاتل والشجر لا يقاوم إلا الريح والعاصفة. استمرت إحدى العواصف في أميركا اللاتينية خمسة أشهر. تعصف، وترعد، وتقصف، وتزبد، وتهطل الأمطار غزيرة كاسحة، وتحمل السحب السوداء، ثم تبرق بها برقاً رهيباً، وتدوي دويّاً مهولاً. وظن الخائفون المتضرعون أنها الساعة نفسها، وليست أشراطها، أو تناثرها، وتدفقت المياه جداول، وتجمعت بحيرات حمراء موحلة. وقال المتقدمون إن مطر هذا الفيضان سوف يكون أكثر قتلاً من الجفاف الذي ضرب كاراكاس، وجعل الجرذان تملأ المدينة بحثاً عن نقطة ماء. أو شبهاً له.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

إيران ــ أميركا: دبلوماسية قلم الحبر

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

هل سيفعلونها أم لا؟ هذا السؤال الذي يتركز حوله حديث المهتمين بالمحادثات الجارية حالياً بين طهران وواشنطن حول البرنامج النووي الإيراني، على أمل الحصول على إجابة واضحة وصريحة. واللافت أن التصريحات العلنية من كلا الجانبين لا تقدّم إجابة واضحة.

من جهته، الرئيس الأميركي دونالد ترمب يبدو واثقاً من أن اتفاقاً يعكس رغباته في طريقه إلى التحقق، بل يتحدث عن عصر ذهبي من الازدهار ينتظر الإيرانيين بمجرد توقيع الاتفاق. كما يبدو واثقاً من أن دبلوماسيته الجديدة، التي يمكن أن نطلق عليها «دبلوماسية الأعمال»، ستنجح فيما فشل فيه ثمانية رؤساء أميركيين، بمن فيهم ترمب نفسه في ولايته الأولى.

وقال ترمب: «إنهم (أي الإيرانيين) يتفاوضون بذكاء». وربما تقول: «لقد مَرَرْنَا بهذا من قبل، وسمعنا ما يكفي!» ولن تكون مخطئاً.

يُذكر أنه عام 2016، نال كل من وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، جائزة «تشاتام هاوس» المرموقة؛ لدورهما في التفاوض على «الاتفاق النووي الإيراني التاريخي»، الذي جرى توقيعه بين إيران وست قوى عالمية.

وادعى مركز الأبحاث اللندني أن الاتفاق «أنهى العقوبات المفروضة على إيران مقابل تقليص برنامجها النووي المثير للجدل». وأشاد بالرجلين لدورهما في حل «واحدة من أكثر الأزمات الدبلوماسية استعصاءً في الشؤون الدولية في القرن الحادي والعشرين».

وقد تتساءل: لماذا عادت مشكلة كانت قد حُلت قبل عقد من الزمان لتتوسل الحل من جديد؟ وستكون على حق.

السبب أن الجانبين كليهما مارسا ما وصفه رئيس الوزراء الفرنسي الراحل جاك شابان - دلماس بـ«سياسة قلم الحبر»؛ إذ قال في مقابلة: «عندما كنت أواجه مشكلة مستعصية، كنت أستخدم سلاحي السرِّيّ: قلم حبر «ووترمان» خاصتي، وأوقّع للتخلص من المشكلة».

عام 2015، وبعد أن نال جائزة نوبل للسلام حتى قبل أن يُنتخَب، راودت الرئيس باراك أوباما رغبةٌ حثيثةٌ لفعل أي شيء يبرر -ولو جزئياً- هذه الجائزة غير المستحقة قبل مغادرته البيت الأبيض. وهنا، وفَّرتْ له المسألة النووية الإيرانية الفرصة المناسبة لإنجاز ذلك.

كان من شأن عَقْدٍ من الدعاية التي صوَّرت الحكام في طهران على أنهم يبنون قنبلة لبدء نهاية العالم، تحويل مثل هذا الاتفاق إلى فرصة طال انتظارها في الأوساط الدبلوماسية.

فيما يخص أوباما، فإن إعطاء الموافقة النهائية أصبح أسهل، لأن «الاتفاق» الذي وصفته «تشاتام هاوس» بـ«التاريخي»، كان «اتفاقاً غير مكتوب»، مما يعني أن أحداً لم يكن بحاجة إلى توقيع أي شيء؛ وإنما كان مُجَرَّدُ التلويحِ بِظِلِّ قَلَمِ الحبر كافياً.

من ناحيتهم، كان الإيرانيون مدركين أن «الاتفاق» الذي صاغه أوباما لن يكون له أي تأثير على خططهم الطموحة لتوسيع إمبراطوريتهم الثيولوجية-الآيديولوجية إلى أبعد مدى ممكن، ما داموا لم يصطدموا بعائق حقيقي في الطريق. كما كانوا يعلمون أن أوباما لم يستطع، ولن يستطيع، رفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك، فإن إيماءة أوباما وغض الطرف كانا كافِيَيْنِ للسماح لطهران بجني ما بين 60 و100 مليار دولار سنوياً -الأموال التي تحتاج إليها لدفع رواتب مرتزقتها المنتشرين في دول عدة في الشرق الأوسط.

فَلْنَعُدْ إلى الوضع الحاليّ. أنا أعلم أن التنبؤ بالمستقبل يجب أن يُترك للعرَّافين أو لألفين توفلر وأتباعه من أنصار نظرية «الموجة الثالثة». ومع ذلك، لا يسعني إلا أن أتنبأ بأن الطرفين سينتهيان إلى استعارة قلم شابان أو أحد أحفاده، ويمنحان «تشاتام هاوس» فرصة أخرى لمنح واحدة من جوائزها «المرموقة»، هذه المرة ربما لعباس عراقجي وستيف ويتكوف، إذا احتفظ بمقعده على طاولة ترمب.

أما القلم المستخدَم هنا، فلن يكون ذهبياً مثل ذاك الذي وضعه نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون الدولية، غريب آبادي، بهدوء في جيبه في مسقط، الشهر الماضي. أما ترمب، فلن يحصل على جائزة نوبل للسلام، لأن مجموعة النخبة التي تمنحها تعدُّه العدو رقم واحد.

والآن، وأرجو ألَّا أكون مخطئاً، لماذا يساورني الاعتقاد بأن قلم الحبر يُملأ الآن بالحبر، من أجل «لحظة تاريخية» أخرى لـ«تشاتام هاوس»؟

السبب الأول أن طهران نجحت في اختزال القضية برمتها في مسألة درجة تخصيب اليورانيوم التي يُسمح لإيران بالاحتفاظ بها. وهنا، صرح وزير الخارجية الإيراني بأن: «تخصيب اليورانيوم داخل إيران خطنا الأحمر. وأيُّ اقتراح بحرمان إيران من هذا الحق يعني نهاية المفاوضات».

أما المرشد علي خامنئي، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، مُلمِّحاً إلى أن تخصيب اليورانيوم نقطة الخلاف الوحيدة بين طهران وواشنطن. وقال موجهاً حديثه إلى ترمب، الأربعاء الماضي: «سواء خصّبت إيران اليورانيوم أم لا، فهذا ليس من شأنك. مَن تظنُّ نفسَكَ لِتَتَقَدَّمَ بمثل هذا الطلب؟»، وقد تكرَّر مثل هذه النغمة على ألسنة ملالي آخرين.

في الواقع، هذا السيناريو الذي يبنيه المرشد: إقناع الجميع، خصوصاً أبناء الشعب الإيراني، بأن «الشيطان الأكبر» يحاول إغلاق برنامج تخصيب اليورانيوم بالكامل، لكننا نقاوم بقوة وسنُرغمه في النهاية على الاعتراف بحقنا في تخصيب اليورانيوم، ربما ليس بالقدر الذي نرغب فيه، لكن على الأقل حتى نسبة 3 أو 4 في المائة. وبذلك، يمكن الإعلان عن «نصر تاريخي» آخر على «الشيطان الأكبر»، نضيفه إلى سلسلة «الانتصارات الأخيرة» التي يقول المرشد الأعلى إنه حققها في لبنان وسوريا والعراق وغزة واليمن.

وما دام ترمب لا يطرح القضايا الحقيقية، مثل تصدير الثورة، وتمويل الإرهاب، واحتجاز الرهائن، ودعم ما تبقى من الجماعات الإرهابية في أنحاء العالم، وإرسال الطائرات المسيّرة مجاناً إلى روسيا، وبيع النفط الرخيص للصين... فإن الإيرانيين سيواصلون اللعب على وتر تخصيب اليورانيوم الذي لا يحتاجون إليه من الأساس.


أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.

قراءة المزيد

دعايات الدُعاة!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

نحن اليوم في يوم الحج الأكبر، أو يوم عيد الأضحى، والحاجُّ يقضي نهاره وليله حالياً في تأدية عبادة الحج ويذكر اسم الله في أيامٍ معلومات، بين طواف وسعي وتلبية وقرابين لله.

فكل عام وأنتم بخير وسعادة وقبول.

هذه المناسبة الشريفة، تستدعي التأمل في عاطفة الدين العميقة، وهي عاطفة عاصمة للبشر، عموم البشر، من الوقوع في حُفر الفوضى وضياع المعايير، هذا أصل الأمر، وهي عاطفة عميقة الجذور في أغوار النفس الإنسانية، مهما اختلفت العصور، وتغيّرت مظاهر العالم من حولنا، وذلك الشعور أو الغريزة العاطفية، هي محلّ بحثٍ قديمٍ جديدٍ لدى أهل النظر والحكمة، والخلاصة أن الانتماء الإيماني مُكّونٌ جوهري في طبيعة النفس الإنسانية.

لأنها كذلك، فإن بعض الناس يسعى لتوظيف هذه العاطفة العميقة، في اتجاهات مادّية مصالحية بحتة، أو حتى في خصومات شخصية، باسم الدين، ويحضرني في هذا المقام طرفة سمعتها من راويها، أن شخصين اختصما إلى القاضي في نجد، قديماً، ففلج أحدهما الآخر، وغلب بالحجّة، فبُهت المفلوج، وقال للقاضي بالعامية النجدية: «بس يا شيخ، أحسن الله إليك، ترا فلان يتتّن!». والمعنى أيها القاضي إن فلاناً خصمي، يتعاطى التدخين (تُتن) يريد بذلك إسقاط عدالته لدى القاضي، وكان التدخين جريمة «دينية» كبيرة في السابق القديم.

حول توظيف الدين في المصالح، قرأت خبراً عن معاقبة وزارة الأوقاف المصرية لبعض «الدعاة» المشاهير، التابعين لها، هذه الأيام بسبب تحدّي هؤلاء المشايخ لقرار الوزارة بعدم الحجّ إلا بأخذ إذنٍ من الوزارة.

تبيّن، حسب الخبر المنشور، أن هؤلاء الدعاة والأئمة سبق وأن سافروا لأداء الفريضة من قبل، إلا أنهم سافروا هذه المرة من أجل الدعاية لشركات السياحة.

من وقتٍ لآخر يتورط بعض من يوصف بالشيخ أو «الداعية» - وهو مصطلح جدلي ليس هذا موضع شرحه - في الترويج لمنتجات تجارية، أو سياسية، مقابل مصالح مادّية أو معنوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، بعضهم روّج لشركات أو بنوك أو شخصيات بعينها، حتى يتهافت العامّة وأشباه العامّة، على هذا المنتج أو تلك الشركة أو ذاك الوجيه.

لعلّ من الأمثلة الصارخة ما ذكره الوزير والمحامي الموريتاني محمد ولد أُمّين في برنامج «سجال» على شبكة «العربية» سابقاً، عن فتوى «الداعية» الموريتاني «الإخواني» محمد الحسن ولد الددّو عن تحريم الدجاج المصري لصالح الدجاج التركي! أن ولد الددّو أفتى بإباحة تناول الدجاج التركي وتحريم الدجاج المصري لمصالح خاصة به مع الدجاج التركي، حسب الحقوقي الموريتاني!

الدين نبيلٌ، والإيمان رفيعٌ، فوق طين المصالح الشخصية اللزجة الزلِقة، وكل عام وأنتم بعافية وراحة بال وصحة وأمن في الأوطان.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

دعايات الدُعاة!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

نحن اليوم في يوم الحج الأكبر، أو يوم عيد الأضحى، والحاجُّ يقضي نهاره وليله حالياً في تأدية عبادة الحج ويذكر اسم الله في أيامٍ معلومات، بين طواف وسعي وتلبية وقرابين لله.

فكل عام وأنتم بخير وسعادة وقبول.

هذه المناسبة الشريفة، تستدعي التأمل في عاطفة الدين العميقة، وهي عاطفة عاصمة للبشر، عموم البشر، من الوقوع في حُفر الفوضى وضياع المعايير، هذا أصل الأمر، وهي عاطفة عميقة الجذور في أغوار النفس الإنسانية، مهما اختلفت العصور، وتغيّرت مظاهر العالم من حولنا، وذلك الشعور أو الغريزة العاطفية، هي محلّ بحثٍ قديمٍ جديدٍ لدى أهل النظر والحكمة، والخلاصة أن الانتماء الإيماني مُكّونٌ جوهري في طبيعة النفس الإنسانية.

لأنها كذلك، فإن بعض الناس يسعى لتوظيف هذه العاطفة العميقة، في اتجاهات مادّية مصالحية بحتة، أو حتى في خصومات شخصية، باسم الدين، ويحضرني في هذا المقام طرفة سمعتها من راويها، أن شخصين اختصما إلى القاضي في نجد، قديماً، ففلج أحدهما الآخر، وغلب بالحجّة، فبُهت المفلوج، وقال للقاضي بالعامية النجدية: «بس يا شيخ، أحسن الله إليك، ترا فلان يتتّن!». والمعنى أيها القاضي إن فلاناً خصمي، يتعاطى التدخين (تُتن) يريد بذلك إسقاط عدالته لدى القاضي، وكان التدخين جريمة «دينية» كبيرة في السابق القديم.

حول توظيف الدين في المصالح، قرأت خبراً عن معاقبة وزارة الأوقاف المصرية لبعض «الدعاة» المشاهير، التابعين لها، هذه الأيام بسبب تحدّي هؤلاء المشايخ لقرار الوزارة بعدم الحجّ إلا بأخذ إذنٍ من الوزارة.

تبيّن، حسب الخبر المنشور، أن هؤلاء الدعاة والأئمة سبق وأن سافروا لأداء الفريضة من قبل، إلا أنهم سافروا هذه المرة من أجل الدعاية لشركات السياحة.

من وقتٍ لآخر يتورط بعض من يوصف بالشيخ أو «الداعية» - وهو مصطلح جدلي ليس هذا موضع شرحه - في الترويج لمنتجات تجارية، أو سياسية، مقابل مصالح مادّية أو معنوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، بعضهم روّج لشركات أو بنوك أو شخصيات بعينها، حتى يتهافت العامّة وأشباه العامّة، على هذا المنتج أو تلك الشركة أو ذاك الوجيه.

لعلّ من الأمثلة الصارخة ما ذكره الوزير والمحامي الموريتاني محمد ولد أُمّين في برنامج «سجال» على شبكة «العربية» سابقاً، عن فتوى «الداعية» الموريتاني «الإخواني» محمد الحسن ولد الددّو عن تحريم الدجاج المصري لصالح الدجاج التركي! أن ولد الددّو أفتى بإباحة تناول الدجاج التركي وتحريم الدجاج المصري لمصالح خاصة به مع الدجاج التركي، حسب الحقوقي الموريتاني!

الدين نبيلٌ، والإيمان رفيعٌ، فوق طين المصالح الشخصية اللزجة الزلِقة، وكل عام وأنتم بعافية وراحة بال وصحة وأمن في الأوطان.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

دعايات الدُعاة!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

نحن اليوم في يوم الحج الأكبر، أو يوم عيد الأضحى، والحاجُّ يقضي نهاره وليله حالياً في تأدية عبادة الحج ويذكر اسم الله في أيامٍ معلومات، بين طواف وسعي وتلبية وقرابين لله.

فكل عام وأنتم بخير وسعادة وقبول.

هذه المناسبة الشريفة، تستدعي التأمل في عاطفة الدين العميقة، وهي عاطفة عاصمة للبشر، عموم البشر، من الوقوع في حُفر الفوضى وضياع المعايير، هذا أصل الأمر، وهي عاطفة عميقة الجذور في أغوار النفس الإنسانية، مهما اختلفت العصور، وتغيّرت مظاهر العالم من حولنا، وذلك الشعور أو الغريزة العاطفية، هي محلّ بحثٍ قديمٍ جديدٍ لدى أهل النظر والحكمة، والخلاصة أن الانتماء الإيماني مُكّونٌ جوهري في طبيعة النفس الإنسانية.

لأنها كذلك، فإن بعض الناس يسعى لتوظيف هذه العاطفة العميقة، في اتجاهات مادّية مصالحية بحتة، أو حتى في خصومات شخصية، باسم الدين، ويحضرني في هذا المقام طرفة سمعتها من راويها، أن شخصين اختصما إلى القاضي في نجد، قديماً، ففلج أحدهما الآخر، وغلب بالحجّة، فبُهت المفلوج، وقال للقاضي بالعامية النجدية: «بس يا شيخ، أحسن الله إليك، ترا فلان يتتّن!». والمعنى أيها القاضي إن فلاناً خصمي، يتعاطى التدخين (تُتن) يريد بذلك إسقاط عدالته لدى القاضي، وكان التدخين جريمة «دينية» كبيرة في السابق القديم.

حول توظيف الدين في المصالح، قرأت خبراً عن معاقبة وزارة الأوقاف المصرية لبعض «الدعاة» المشاهير، التابعين لها، هذه الأيام بسبب تحدّي هؤلاء المشايخ لقرار الوزارة بعدم الحجّ إلا بأخذ إذنٍ من الوزارة.

تبيّن، حسب الخبر المنشور، أن هؤلاء الدعاة والأئمة سبق وأن سافروا لأداء الفريضة من قبل، إلا أنهم سافروا هذه المرة من أجل الدعاية لشركات السياحة.

من وقتٍ لآخر يتورط بعض من يوصف بالشيخ أو «الداعية» - وهو مصطلح جدلي ليس هذا موضع شرحه - في الترويج لمنتجات تجارية، أو سياسية، مقابل مصالح مادّية أو معنوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، بعضهم روّج لشركات أو بنوك أو شخصيات بعينها، حتى يتهافت العامّة وأشباه العامّة، على هذا المنتج أو تلك الشركة أو ذاك الوجيه.

لعلّ من الأمثلة الصارخة ما ذكره الوزير والمحامي الموريتاني محمد ولد أُمّين في برنامج «سجال» على شبكة «العربية» سابقاً، عن فتوى «الداعية» الموريتاني «الإخواني» محمد الحسن ولد الددّو عن تحريم الدجاج المصري لصالح الدجاج التركي! أن ولد الددّو أفتى بإباحة تناول الدجاج التركي وتحريم الدجاج المصري لمصالح خاصة به مع الدجاج التركي، حسب الحقوقي الموريتاني!

الدين نبيلٌ، والإيمان رفيعٌ، فوق طين المصالح الشخصية اللزجة الزلِقة، وكل عام وأنتم بعافية وراحة بال وصحة وأمن في الأوطان.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

دعايات الدُعاة!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

نحن اليوم في يوم الحج الأكبر، أو يوم عيد الأضحى، والحاجُّ يقضي نهاره وليله حالياً في تأدية عبادة الحج ويذكر اسم الله في أيامٍ معلومات، بين طواف وسعي وتلبية وقرابين لله.

فكل عام وأنتم بخير وسعادة وقبول.

هذه المناسبة الشريفة، تستدعي التأمل في عاطفة الدين العميقة، وهي عاطفة عاصمة للبشر، عموم البشر، من الوقوع في حُفر الفوضى وضياع المعايير، هذا أصل الأمر، وهي عاطفة عميقة الجذور في أغوار النفس الإنسانية، مهما اختلفت العصور، وتغيّرت مظاهر العالم من حولنا، وذلك الشعور أو الغريزة العاطفية، هي محلّ بحثٍ قديمٍ جديدٍ لدى أهل النظر والحكمة، والخلاصة أن الانتماء الإيماني مُكّونٌ جوهري في طبيعة النفس الإنسانية.

لأنها كذلك، فإن بعض الناس يسعى لتوظيف هذه العاطفة العميقة، في اتجاهات مادّية مصالحية بحتة، أو حتى في خصومات شخصية، باسم الدين، ويحضرني في هذا المقام طرفة سمعتها من راويها، أن شخصين اختصما إلى القاضي في نجد، قديماً، ففلج أحدهما الآخر، وغلب بالحجّة، فبُهت المفلوج، وقال للقاضي بالعامية النجدية: «بس يا شيخ، أحسن الله إليك، ترا فلان يتتّن!». والمعنى أيها القاضي إن فلاناً خصمي، يتعاطى التدخين (تُتن) يريد بذلك إسقاط عدالته لدى القاضي، وكان التدخين جريمة «دينية» كبيرة في السابق القديم.

حول توظيف الدين في المصالح، قرأت خبراً عن معاقبة وزارة الأوقاف المصرية لبعض «الدعاة» المشاهير، التابعين لها، هذه الأيام بسبب تحدّي هؤلاء المشايخ لقرار الوزارة بعدم الحجّ إلا بأخذ إذنٍ من الوزارة.

تبيّن، حسب الخبر المنشور، أن هؤلاء الدعاة والأئمة سبق وأن سافروا لأداء الفريضة من قبل، إلا أنهم سافروا هذه المرة من أجل الدعاية لشركات السياحة.

من وقتٍ لآخر يتورط بعض من يوصف بالشيخ أو «الداعية» - وهو مصطلح جدلي ليس هذا موضع شرحه - في الترويج لمنتجات تجارية، أو سياسية، مقابل مصالح مادّية أو معنوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، بعضهم روّج لشركات أو بنوك أو شخصيات بعينها، حتى يتهافت العامّة وأشباه العامّة، على هذا المنتج أو تلك الشركة أو ذاك الوجيه.

لعلّ من الأمثلة الصارخة ما ذكره الوزير والمحامي الموريتاني محمد ولد أُمّين في برنامج «سجال» على شبكة «العربية» سابقاً، عن فتوى «الداعية» الموريتاني «الإخواني» محمد الحسن ولد الددّو عن تحريم الدجاج المصري لصالح الدجاج التركي! أن ولد الددّو أفتى بإباحة تناول الدجاج التركي وتحريم الدجاج المصري لمصالح خاصة به مع الدجاج التركي، حسب الحقوقي الموريتاني!

الدين نبيلٌ، والإيمان رفيعٌ، فوق طين المصالح الشخصية اللزجة الزلِقة، وكل عام وأنتم بعافية وراحة بال وصحة وأمن في الأوطان.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

دعايات الدُعاة!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

نحن اليوم في يوم الحج الأكبر، أو يوم عيد الأضحى، والحاجُّ يقضي نهاره وليله حالياً في تأدية عبادة الحج ويذكر اسم الله في أيامٍ معلومات، بين طواف وسعي وتلبية وقرابين لله.

فكل عام وأنتم بخير وسعادة وقبول.

هذه المناسبة الشريفة، تستدعي التأمل في عاطفة الدين العميقة، وهي عاطفة عاصمة للبشر، عموم البشر، من الوقوع في حُفر الفوضى وضياع المعايير، هذا أصل الأمر، وهي عاطفة عميقة الجذور في أغوار النفس الإنسانية، مهما اختلفت العصور، وتغيّرت مظاهر العالم من حولنا، وذلك الشعور أو الغريزة العاطفية، هي محلّ بحثٍ قديمٍ جديدٍ لدى أهل النظر والحكمة، والخلاصة أن الانتماء الإيماني مُكّونٌ جوهري في طبيعة النفس الإنسانية.

لأنها كذلك، فإن بعض الناس يسعى لتوظيف هذه العاطفة العميقة، في اتجاهات مادّية مصالحية بحتة، أو حتى في خصومات شخصية، باسم الدين، ويحضرني في هذا المقام طرفة سمعتها من راويها، أن شخصين اختصما إلى القاضي في نجد، قديماً، ففلج أحدهما الآخر، وغلب بالحجّة، فبُهت المفلوج، وقال للقاضي بالعامية النجدية: «بس يا شيخ، أحسن الله إليك، ترا فلان يتتّن!». والمعنى أيها القاضي إن فلاناً خصمي، يتعاطى التدخين (تُتن) يريد بذلك إسقاط عدالته لدى القاضي، وكان التدخين جريمة «دينية» كبيرة في السابق القديم.

حول توظيف الدين في المصالح، قرأت خبراً عن معاقبة وزارة الأوقاف المصرية لبعض «الدعاة» المشاهير، التابعين لها، هذه الأيام بسبب تحدّي هؤلاء المشايخ لقرار الوزارة بعدم الحجّ إلا بأخذ إذنٍ من الوزارة.

تبيّن، حسب الخبر المنشور، أن هؤلاء الدعاة والأئمة سبق وأن سافروا لأداء الفريضة من قبل، إلا أنهم سافروا هذه المرة من أجل الدعاية لشركات السياحة.

من وقتٍ لآخر يتورط بعض من يوصف بالشيخ أو «الداعية» - وهو مصطلح جدلي ليس هذا موضع شرحه - في الترويج لمنتجات تجارية، أو سياسية، مقابل مصالح مادّية أو معنوية، والأمثلة على ذلك كثيرة، بعضهم روّج لشركات أو بنوك أو شخصيات بعينها، حتى يتهافت العامّة وأشباه العامّة، على هذا المنتج أو تلك الشركة أو ذاك الوجيه.

لعلّ من الأمثلة الصارخة ما ذكره الوزير والمحامي الموريتاني محمد ولد أُمّين في برنامج «سجال» على شبكة «العربية» سابقاً، عن فتوى «الداعية» الموريتاني «الإخواني» محمد الحسن ولد الددّو عن تحريم الدجاج المصري لصالح الدجاج التركي! أن ولد الددّو أفتى بإباحة تناول الدجاج التركي وتحريم الدجاج المصري لمصالح خاصة به مع الدجاج التركي، حسب الحقوقي الموريتاني!

الدين نبيلٌ، والإيمان رفيعٌ، فوق طين المصالح الشخصية اللزجة الزلِقة، وكل عام وأنتم بعافية وراحة بال وصحة وأمن في الأوطان.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

إلى متى… لا إلى أين؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

ينام الإنسان العربي ويفيق كل يوم وهو في كابوس لا نهاية له. ويتساءل كل يوم: هل هذا أنا؟ وهل هذه حقاً أمتي؟ وهل هذه لغتي؟، وهل هذه عروبتي؟ كل يوم يفيق هذا المخلوق المعذب فيجد نفسه محاصراً بجيوش من الألسنة الحاقدة، والعقول الملوثة، والوجوه اللئيمة، التي تمنع عنه التعزية بأمل، أو نور، أو ترفّق، أو وعي. كابوسان لا ينتهيان: إسرائيل في فظاعة الجريمة المكررة، الوقحة والمتغطرسة. ولغة السفه والتلوث الخلقي، وانهيار القيم، وبطولة المكاره، وسباق الرثاثة، وتفاقم الخواء. وإذ نفيق، لم نعد نبحث عن شيء آخر. استسلمنا إلى جرف الانحطاط، وارتضينا في خنوع لمقياس الخراب وبذاءة الهزيمة، التي هي أسوأ ما يحل بالشعوب والأمم، جيلاً بعد جيل.

نفوس حزينة كسرها الرعب والرهبة. ونفوس تخاف النعوت، وطغيان الشتائم، وجبن مديد يتلطى بالحرص على ما بقي من قواعد وأعراف وآداب وأصول.

والسؤال الأكبر ليس إلى أين، بل إلى متى؟. كلما سادت هذه اللغة، محا الشعور بالهزيمة إحساسنا بكرامتنا البشرية. مواطنون بلا وطن، وأوطان غريبة عن أهلها. ركام النفوس وركام الحجارة. منعتنا إسرائيل حتى من تفقد الأطفال. حتى من إطعامهم. حتى من سقي الحمير التي يتنقلون عليها، ومعهم كل ما يملكون على وجه الأرض.

لكن اللغة التي نناقش بها قضايانا أقسى من ذلك. وأفظع وأفرغ. وأذل. لغة التفاصيل والتباعد والتحقير. لغة الخلو من الإنسان وكرامته وحقوقه. هذا التخاطب يصبح مع الوقت لغتنا الوحيدة، وليس البديلة. نتخاطب كالوحوش، ونتحاور كالكواسر. إلى متى؟... إلى متى ليس لدينا ما نقدمه لأجيالنا سوى هذا السفه والهوان؟!

إلى متى هذا التنكيل بكل ما أورثنا المعلمون، والمقدرون، وكبار الأهل، والعدل، والمُثل؟


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

إلى متى… لا إلى أين؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

ينام الإنسان العربي ويفيق كل يوم وهو في كابوس لا نهاية له. ويتساءل كل يوم: هل هذا أنا؟ وهل هذه حقاً أمتي؟ وهل هذه لغتي؟، وهل هذه عروبتي؟ كل يوم يفيق هذا المخلوق المعذب فيجد نفسه محاصراً بجيوش من الألسنة الحاقدة، والعقول الملوثة، والوجوه اللئيمة، التي تمنع عنه التعزية بأمل، أو نور، أو ترفّق، أو وعي. كابوسان لا ينتهيان: إسرائيل في فظاعة الجريمة المكررة، الوقحة والمتغطرسة. ولغة السفه والتلوث الخلقي، وانهيار القيم، وبطولة المكاره، وسباق الرثاثة، وتفاقم الخواء. وإذ نفيق، لم نعد نبحث عن شيء آخر. استسلمنا إلى جرف الانحطاط، وارتضينا في خنوع لمقياس الخراب وبذاءة الهزيمة، التي هي أسوأ ما يحل بالشعوب والأمم، جيلاً بعد جيل.

نفوس حزينة كسرها الرعب والرهبة. ونفوس تخاف النعوت، وطغيان الشتائم، وجبن مديد يتلطى بالحرص على ما بقي من قواعد وأعراف وآداب وأصول.

والسؤال الأكبر ليس إلى أين، بل إلى متى؟. كلما سادت هذه اللغة، محا الشعور بالهزيمة إحساسنا بكرامتنا البشرية. مواطنون بلا وطن، وأوطان غريبة عن أهلها. ركام النفوس وركام الحجارة. منعتنا إسرائيل حتى من تفقد الأطفال. حتى من إطعامهم. حتى من سقي الحمير التي يتنقلون عليها، ومعهم كل ما يملكون على وجه الأرض.

لكن اللغة التي نناقش بها قضايانا أقسى من ذلك. وأفظع وأفرغ. وأذل. لغة التفاصيل والتباعد والتحقير. لغة الخلو من الإنسان وكرامته وحقوقه. هذا التخاطب يصبح مع الوقت لغتنا الوحيدة، وليس البديلة. نتخاطب كالوحوش، ونتحاور كالكواسر. إلى متى؟... إلى متى ليس لدينا ما نقدمه لأجيالنا سوى هذا السفه والهوان؟!

إلى متى هذا التنكيل بكل ما أورثنا المعلمون، والمقدرون، وكبار الأهل، والعدل، والمُثل؟


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

إلى متى… لا إلى أين؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

ينام الإنسان العربي ويفيق كل يوم وهو في كابوس لا نهاية له. ويتساءل كل يوم: هل هذا أنا؟ وهل هذه حقاً أمتي؟ وهل هذه لغتي؟، وهل هذه عروبتي؟ كل يوم يفيق هذا المخلوق المعذب فيجد نفسه محاصراً بجيوش من الألسنة الحاقدة، والعقول الملوثة، والوجوه اللئيمة، التي تمنع عنه التعزية بأمل، أو نور، أو ترفّق، أو وعي. كابوسان لا ينتهيان: إسرائيل في فظاعة الجريمة المكررة، الوقحة والمتغطرسة. ولغة السفه والتلوث الخلقي، وانهيار القيم، وبطولة المكاره، وسباق الرثاثة، وتفاقم الخواء. وإذ نفيق، لم نعد نبحث عن شيء آخر. استسلمنا إلى جرف الانحطاط، وارتضينا في خنوع لمقياس الخراب وبذاءة الهزيمة، التي هي أسوأ ما يحل بالشعوب والأمم، جيلاً بعد جيل.

نفوس حزينة كسرها الرعب والرهبة. ونفوس تخاف النعوت، وطغيان الشتائم، وجبن مديد يتلطى بالحرص على ما بقي من قواعد وأعراف وآداب وأصول.

والسؤال الأكبر ليس إلى أين، بل إلى متى؟. كلما سادت هذه اللغة، محا الشعور بالهزيمة إحساسنا بكرامتنا البشرية. مواطنون بلا وطن، وأوطان غريبة عن أهلها. ركام النفوس وركام الحجارة. منعتنا إسرائيل حتى من تفقد الأطفال. حتى من إطعامهم. حتى من سقي الحمير التي يتنقلون عليها، ومعهم كل ما يملكون على وجه الأرض.

لكن اللغة التي نناقش بها قضايانا أقسى من ذلك. وأفظع وأفرغ. وأذل. لغة التفاصيل والتباعد والتحقير. لغة الخلو من الإنسان وكرامته وحقوقه. هذا التخاطب يصبح مع الوقت لغتنا الوحيدة، وليس البديلة. نتخاطب كالوحوش، ونتحاور كالكواسر. إلى متى؟... إلى متى ليس لدينا ما نقدمه لأجيالنا سوى هذا السفه والهوان؟!

إلى متى هذا التنكيل بكل ما أورثنا المعلمون، والمقدرون، وكبار الأهل، والعدل، والمُثل؟


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

إلى متى… لا إلى أين؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

ينام الإنسان العربي ويفيق كل يوم وهو في كابوس لا نهاية له. ويتساءل كل يوم: هل هذا أنا؟ وهل هذه حقاً أمتي؟ وهل هذه لغتي؟، وهل هذه عروبتي؟ كل يوم يفيق هذا المخلوق المعذب فيجد نفسه محاصراً بجيوش من الألسنة الحاقدة، والعقول الملوثة، والوجوه اللئيمة، التي تمنع عنه التعزية بأمل، أو نور، أو ترفّق، أو وعي. كابوسان لا ينتهيان: إسرائيل في فظاعة الجريمة المكررة، الوقحة والمتغطرسة. ولغة السفه والتلوث الخلقي، وانهيار القيم، وبطولة المكاره، وسباق الرثاثة، وتفاقم الخواء. وإذ نفيق، لم نعد نبحث عن شيء آخر. استسلمنا إلى جرف الانحطاط، وارتضينا في خنوع لمقياس الخراب وبذاءة الهزيمة، التي هي أسوأ ما يحل بالشعوب والأمم، جيلاً بعد جيل.

نفوس حزينة كسرها الرعب والرهبة. ونفوس تخاف النعوت، وطغيان الشتائم، وجبن مديد يتلطى بالحرص على ما بقي من قواعد وأعراف وآداب وأصول.

والسؤال الأكبر ليس إلى أين، بل إلى متى؟. كلما سادت هذه اللغة، محا الشعور بالهزيمة إحساسنا بكرامتنا البشرية. مواطنون بلا وطن، وأوطان غريبة عن أهلها. ركام النفوس وركام الحجارة. منعتنا إسرائيل حتى من تفقد الأطفال. حتى من إطعامهم. حتى من سقي الحمير التي يتنقلون عليها، ومعهم كل ما يملكون على وجه الأرض.

لكن اللغة التي نناقش بها قضايانا أقسى من ذلك. وأفظع وأفرغ. وأذل. لغة التفاصيل والتباعد والتحقير. لغة الخلو من الإنسان وكرامته وحقوقه. هذا التخاطب يصبح مع الوقت لغتنا الوحيدة، وليس البديلة. نتخاطب كالوحوش، ونتحاور كالكواسر. إلى متى؟... إلى متى ليس لدينا ما نقدمه لأجيالنا سوى هذا السفه والهوان؟!

إلى متى هذا التنكيل بكل ما أورثنا المعلمون، والمقدرون، وكبار الأهل، والعدل، والمُثل؟


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

التنظيمات المسلَّحة: هل من مخرج؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

أَبلغَ وزيرُ الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، المسؤولين اللبنانيين أنه قادمٌ إليهم في زيارةٍ، مجهولة المقاصد والأهداف. قابل عراقجي الرؤساءَ الثلاثة بالطبع، لكنّ الأهمّ في زيارات المسؤولين الإيرانيين للبنان منذ 30 عاماً وأكثر أنها تكون في الحقيقة إلى «حزب الله» ومسؤوليه، وليست للدولة اللبنانية. وإلى «الحزب»، وقبل المسؤولين اللبنانيين أيضاً، كانت تأتي الزيارة لسوريا الأسدية، كما كان المقصود في زيارة لبنان مقابلة حسن نصر الله فحسب.

حدثت متغيراتٌ كثيرةٌ إذن، ومع ذلك لا يزال «الحزب» المسلح موجوداً، وكذلك بقي ولاؤه لإيران. وهو يجادل المسؤولين اللبنانيين في الأسابيع الأخيرة بأنه لن ينزع سلاحه وفق القرار الدولي رقم «1701» إلا إذا وفّى الإسرائيليون من جانبهم بشروط القرار أيضاً، وهم لم يفعلوا حتى الآن. أما الإيرانيون في تصريحاتهم فإنهم غير مهتمين بالقرار الدولي، بل هم مهتمون ببقاء المقاومة لإسرائيل. ويجادلهم خصومُ «الحزبِ» ومقاومتِه بأنّ ذلك لم يَعدْ مفيداً، فقد انكسر «الحزب» كسرةً لا تنجبر. ثم إن إسرائيل وأميركا معاً تهددان لبنان بالحرب يومياً؛ ليس فقط إن تحرك «الحزب» ضدهم، بل وإن بقي سلاحه معه وهو في أقاصي الهرمل.

لماذا يأتي عراقجي؟ المحادثات النووية مع أميركا لا تجري جيداً، والتوتر يزداد، وإسرائيل وإيران تتبادلان التهديدات من دون انقطاع: فهل يحتاج الإيرانيون إلى سلاح «الحزب» من جديد إذا تبادلوا الضربات مع إسرائيل؟ وألا يخشى «العقل الشيعي الأعلى» حرباً مدمِّرةً على لبنان وإيران؟

«حزب الله» تنظيم مسلح كان يخدم منذ قيامه إيرانَ وسوريا. لكنه أيضاً صار يدّعي حفظ مصالح الشيعة ضمن النظام اللبناني. وقد حصلوا بالفعل على ميزات في سائر المؤسسات ومن خارج المؤسسات وفوقها. ولذلك؛ إلى جانب الارتباط بإيران، هناك الابتزازُ بالسلاح داخل الدولة. التنظيم المسلَّح داخل الدولة سوءٌ كلُّه، سواء في الحرب والسلم. ومنذ زمان يعرض النظام اللبناني على «الحزب» خطة يسميها: «الاستراتيجية الدفاعية لضم السلاح والعناصر الرئيسية إلى الجيش»، وكان «الحزب» يرفض أو يراوغ. والمسألة الآن ليست فقط ضغطَ النظام اللبناني على «الحزب»، بل وضغط أميركا وإسرائيل التي لا تزال تُغِير وتقتل كل يوم في جنوب لبنان وخارجه.

في سوريا مشكلةُ ميليشياتٍ كبرى أيضاً إلى جانب الجيوش الأجنبية. وكانت التنظيمات بالعشرات، لكنها انحصرت الآن في: مَن مع النظام الجديد، ومَن ضده، ومَن هو تابع للجيوش التي على الأرض. ولدى النظام خطة وافق عليها الأميركيون تقول بدمج الميليشيات الموالية في الجيش الوطني الجديد، حتى لو كانوا أجانب أو متطرفين. لكن يبقى مسلحو الأكراد، وهم سوريون أو قادمون من تركيا وعددهم كبير. ثم هناك المسلحون التابعون للجيش الأميركي، والآخرون التابعون للجيش التركي.

وقد لا يستطيع هؤلاء - بخلاف شراذم «داعش» - الصمود في وجه الضغوط، لكنّ الأمر يبقى صعباً، فقد تَعوّد هؤلاء على حمل السلاح وعلى التكسُّب به. لكن إذا أجمع العرب والأتراك والأميركيون على دعم النظام الجديد، فقد تنجح المحاولات لإنشاء جيش واحد، لكنّ ذلك يستغرق سنوات. فها هو العراق، الذي يحاول منذ أكثر من 5 سنوات استيعاب الميليشيات الشيعية الموالية لإيران ضمن الجيش، وقد أعطاهم مرتبات، وزعماؤهم منضوون في النظام، ما أمكَنَ له تحقيق الاندماج، وهؤلاء لا يتقاضون مرتبات فقط؛ بل ويسيطرون على نواحٍ ومرافق بالبلاد للكسب أيضاً. فكيف تريد الدولة العراقية الخلاص؟

ولنذهب إلى ليبيا التي تنتشر في غربها ووسطها عشرات الميليشيات التي زعمت أنها إنما قامت لتحقيق أهداف الثورة. ووَضْعُها مثل وضْعِ ميليشيات العراق، فهي تتقاضى رواتب، وإلى ذلك لها علاقات بجهات أجنبية أمنية وسياسية عدة. ولا يمضي شهر إلا وتتصارع بينها على الموارد والمساحات وأيها الأقرب إلى الآبار النفطية. من يجرد هذه الميليشيات من سلاحها؟ في غرب ليبيا لا يجرؤ أحدٌ على ذكر ذلك، وإنما يتحدث عن ذلك الدوليون وأعداؤهم في شرق ليبيا. هل إلى خروجٍ من سبيل؟ الحظوظ ليست كبيرة إلا بالتوافق، وهو لن يحدث بسبب صراع الغرب مع الشرق على السلطة والموارد.

وهناك رهانَا اليمن والسودان على حاضر العرب ومستقبلهم. في اليمن الدولة الشرعية، ودولة ميليشيا الحوثي المسيطرة على العاصمة والسواحل بالشمال. وفي السودان حرب طاحنة بين الجيش وميليشيا «الدعم السريع» المسيطرة على إقليم دارفور والجوار.

التنظيمات المسلحة التي لديها ادعاءاتٌ أو من دونها، تُظهرُ قدرةً على الاستمرار وعلى النزوع إلى القتال ضد السلطات؛ من أجل البقاء والاستيلاء، ولا دولة مع ميليشيا أياً تكن الأسباب.

ما أصعب المخارج، وما أصعب استعادة الدولة إذا اضطرب المجتمع.


رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية

قراءة المزيد

التنظيمات المسلَّحة: هل من مخرج؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

أَبلغَ وزيرُ الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، المسؤولين اللبنانيين أنه قادمٌ إليهم في زيارةٍ، مجهولة المقاصد والأهداف. قابل عراقجي الرؤساءَ الثلاثة بالطبع، لكنّ الأهمّ في زيارات المسؤولين الإيرانيين للبنان منذ 30 عاماً وأكثر أنها تكون في الحقيقة إلى «حزب الله» ومسؤوليه، وليست للدولة اللبنانية. وإلى «الحزب»، وقبل المسؤولين اللبنانيين أيضاً، كانت تأتي الزيارة لسوريا الأسدية، كما كان المقصود في زيارة لبنان مقابلة حسن نصر الله فحسب.

حدثت متغيراتٌ كثيرةٌ إذن، ومع ذلك لا يزال «الحزب» المسلح موجوداً، وكذلك بقي ولاؤه لإيران. وهو يجادل المسؤولين اللبنانيين في الأسابيع الأخيرة بأنه لن ينزع سلاحه وفق القرار الدولي رقم «1701» إلا إذا وفّى الإسرائيليون من جانبهم بشروط القرار أيضاً، وهم لم يفعلوا حتى الآن. أما الإيرانيون في تصريحاتهم فإنهم غير مهتمين بالقرار الدولي، بل هم مهتمون ببقاء المقاومة لإسرائيل. ويجادلهم خصومُ «الحزبِ» ومقاومتِه بأنّ ذلك لم يَعدْ مفيداً، فقد انكسر «الحزب» كسرةً لا تنجبر. ثم إن إسرائيل وأميركا معاً تهددان لبنان بالحرب يومياً؛ ليس فقط إن تحرك «الحزب» ضدهم، بل وإن بقي سلاحه معه وهو في أقاصي الهرمل.

لماذا يأتي عراقجي؟ المحادثات النووية مع أميركا لا تجري جيداً، والتوتر يزداد، وإسرائيل وإيران تتبادلان التهديدات من دون انقطاع: فهل يحتاج الإيرانيون إلى سلاح «الحزب» من جديد إذا تبادلوا الضربات مع إسرائيل؟ وألا يخشى «العقل الشيعي الأعلى» حرباً مدمِّرةً على لبنان وإيران؟

«حزب الله» تنظيم مسلح كان يخدم منذ قيامه إيرانَ وسوريا. لكنه أيضاً صار يدّعي حفظ مصالح الشيعة ضمن النظام اللبناني. وقد حصلوا بالفعل على ميزات في سائر المؤسسات ومن خارج المؤسسات وفوقها. ولذلك؛ إلى جانب الارتباط بإيران، هناك الابتزازُ بالسلاح داخل الدولة. التنظيم المسلَّح داخل الدولة سوءٌ كلُّه، سواء في الحرب والسلم. ومنذ زمان يعرض النظام اللبناني على «الحزب» خطة يسميها: «الاستراتيجية الدفاعية لضم السلاح والعناصر الرئيسية إلى الجيش»، وكان «الحزب» يرفض أو يراوغ. والمسألة الآن ليست فقط ضغطَ النظام اللبناني على «الحزب»، بل وضغط أميركا وإسرائيل التي لا تزال تُغِير وتقتل كل يوم في جنوب لبنان وخارجه.

في سوريا مشكلةُ ميليشياتٍ كبرى أيضاً إلى جانب الجيوش الأجنبية. وكانت التنظيمات بالعشرات، لكنها انحصرت الآن في: مَن مع النظام الجديد، ومَن ضده، ومَن هو تابع للجيوش التي على الأرض. ولدى النظام خطة وافق عليها الأميركيون تقول بدمج الميليشيات الموالية في الجيش الوطني الجديد، حتى لو كانوا أجانب أو متطرفين. لكن يبقى مسلحو الأكراد، وهم سوريون أو قادمون من تركيا وعددهم كبير. ثم هناك المسلحون التابعون للجيش الأميركي، والآخرون التابعون للجيش التركي.

وقد لا يستطيع هؤلاء - بخلاف شراذم «داعش» - الصمود في وجه الضغوط، لكنّ الأمر يبقى صعباً، فقد تَعوّد هؤلاء على حمل السلاح وعلى التكسُّب به. لكن إذا أجمع العرب والأتراك والأميركيون على دعم النظام الجديد، فقد تنجح المحاولات لإنشاء جيش واحد، لكنّ ذلك يستغرق سنوات. فها هو العراق، الذي يحاول منذ أكثر من 5 سنوات استيعاب الميليشيات الشيعية الموالية لإيران ضمن الجيش، وقد أعطاهم مرتبات، وزعماؤهم منضوون في النظام، ما أمكَنَ له تحقيق الاندماج، وهؤلاء لا يتقاضون مرتبات فقط؛ بل ويسيطرون على نواحٍ ومرافق بالبلاد للكسب أيضاً. فكيف تريد الدولة العراقية الخلاص؟

ولنذهب إلى ليبيا التي تنتشر في غربها ووسطها عشرات الميليشيات التي زعمت أنها إنما قامت لتحقيق أهداف الثورة. ووَضْعُها مثل وضْعِ ميليشيات العراق، فهي تتقاضى رواتب، وإلى ذلك لها علاقات بجهات أجنبية أمنية وسياسية عدة. ولا يمضي شهر إلا وتتصارع بينها على الموارد والمساحات وأيها الأقرب إلى الآبار النفطية. من يجرد هذه الميليشيات من سلاحها؟ في غرب ليبيا لا يجرؤ أحدٌ على ذكر ذلك، وإنما يتحدث عن ذلك الدوليون وأعداؤهم في شرق ليبيا. هل إلى خروجٍ من سبيل؟ الحظوظ ليست كبيرة إلا بالتوافق، وهو لن يحدث بسبب صراع الغرب مع الشرق على السلطة والموارد.

وهناك رهانَا اليمن والسودان على حاضر العرب ومستقبلهم. في اليمن الدولة الشرعية، ودولة ميليشيا الحوثي المسيطرة على العاصمة والسواحل بالشمال. وفي السودان حرب طاحنة بين الجيش وميليشيا «الدعم السريع» المسيطرة على إقليم دارفور والجوار.

التنظيمات المسلحة التي لديها ادعاءاتٌ أو من دونها، تُظهرُ قدرةً على الاستمرار وعلى النزوع إلى القتال ضد السلطات؛ من أجل البقاء والاستيلاء، ولا دولة مع ميليشيا أياً تكن الأسباب.

ما أصعب المخارج، وما أصعب استعادة الدولة إذا اضطرب المجتمع.


رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية

قراءة المزيد

إلى متى… لا إلى أين؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

ينام الإنسان العربي ويفيق كل يوم وهو في كابوس لا نهاية له. ويتساءل كل يوم: هل هذا أنا؟ وهل هذه حقاً أمتي؟ وهل هذه لغتي؟، وهل هذه عروبتي؟ كل يوم يفيق هذا المخلوق المعذب فيجد نفسه محاصراً بجيوش من الألسنة الحاقدة، والعقول الملوثة، والوجوه اللئيمة، التي تمنع عنه التعزية بأمل، أو نور، أو ترفّق، أو وعي. كابوسان لا ينتهيان: إسرائيل في فظاعة الجريمة المكررة، الوقحة والمتغطرسة. ولغة السفه والتلوث الخلقي، وانهيار القيم، وبطولة المكاره، وسباق الرثاثة، وتفاقم الخواء. وإذ نفيق، لم نعد نبحث عن شيء آخر. استسلمنا إلى جرف الانحطاط، وارتضينا في خنوع لمقياس الخراب وبذاءة الهزيمة، التي هي أسوأ ما يحل بالشعوب والأمم، جيلاً بعد جيل.

نفوس حزينة كسرها الرعب والرهبة. ونفوس تخاف النعوت، وطغيان الشتائم، وجبن مديد يتلطى بالحرص على ما بقي من قواعد وأعراف وآداب وأصول.

والسؤال الأكبر ليس إلى أين، بل إلى متى؟. كلما سادت هذه اللغة، محا الشعور بالهزيمة إحساسنا بكرامتنا البشرية. مواطنون بلا وطن، وأوطان غريبة عن أهلها. ركام النفوس وركام الحجارة. منعتنا إسرائيل حتى من تفقد الأطفال. حتى من إطعامهم. حتى من سقي الحمير التي يتنقلون عليها، ومعهم كل ما يملكون على وجه الأرض.

لكن اللغة التي نناقش بها قضايانا أقسى من ذلك. وأفظع وأفرغ. وأذل. لغة التفاصيل والتباعد والتحقير. لغة الخلو من الإنسان وكرامته وحقوقه. هذا التخاطب يصبح مع الوقت لغتنا الوحيدة، وليس البديلة. نتخاطب كالوحوش، ونتحاور كالكواسر. إلى متى؟... إلى متى ليس لدينا ما نقدمه لأجيالنا سوى هذا السفه والهوان؟!

إلى متى هذا التنكيل بكل ما أورثنا المعلمون، والمقدرون، وكبار الأهل، والعدل، والمُثل؟


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

إلى متى… لا إلى أين؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

ينام الإنسان العربي ويفيق كل يوم وهو في كابوس لا نهاية له. ويتساءل كل يوم: هل هذا أنا؟ وهل هذه حقاً أمتي؟ وهل هذه لغتي؟، وهل هذه عروبتي؟ كل يوم يفيق هذا المخلوق المعذب فيجد نفسه محاصراً بجيوش من الألسنة الحاقدة، والعقول الملوثة، والوجوه اللئيمة، التي تمنع عنه التعزية بأمل، أو نور، أو ترفّق، أو وعي. كابوسان لا ينتهيان: إسرائيل في فظاعة الجريمة المكررة، الوقحة والمتغطرسة. ولغة السفه والتلوث الخلقي، وانهيار القيم، وبطولة المكاره، وسباق الرثاثة، وتفاقم الخواء. وإذ نفيق، لم نعد نبحث عن شيء آخر. استسلمنا إلى جرف الانحطاط، وارتضينا في خنوع لمقياس الخراب وبذاءة الهزيمة، التي هي أسوأ ما يحل بالشعوب والأمم، جيلاً بعد جيل.

نفوس حزينة كسرها الرعب والرهبة. ونفوس تخاف النعوت، وطغيان الشتائم، وجبن مديد يتلطى بالحرص على ما بقي من قواعد وأعراف وآداب وأصول.

والسؤال الأكبر ليس إلى أين، بل إلى متى؟. كلما سادت هذه اللغة، محا الشعور بالهزيمة إحساسنا بكرامتنا البشرية. مواطنون بلا وطن، وأوطان غريبة عن أهلها. ركام النفوس وركام الحجارة. منعتنا إسرائيل حتى من تفقد الأطفال. حتى من إطعامهم. حتى من سقي الحمير التي يتنقلون عليها، ومعهم كل ما يملكون على وجه الأرض.

لكن اللغة التي نناقش بها قضايانا أقسى من ذلك. وأفظع وأفرغ. وأذل. لغة التفاصيل والتباعد والتحقير. لغة الخلو من الإنسان وكرامته وحقوقه. هذا التخاطب يصبح مع الوقت لغتنا الوحيدة، وليس البديلة. نتخاطب كالوحوش، ونتحاور كالكواسر. إلى متى؟... إلى متى ليس لدينا ما نقدمه لأجيالنا سوى هذا السفه والهوان؟!

إلى متى هذا التنكيل بكل ما أورثنا المعلمون، والمقدرون، وكبار الأهل، والعدل، والمُثل؟


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد