مبدأ ترمب: عدم التدخل!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

ثلاثة تصريحات مهمة لترمب وأعضاء من إدارته تعكس نهجها في السياسة الخارجية. الأول لترمب في الرياض الذي قال: «ولّت الأيام التي كان فيها التدخليون الغربيون يطيرون إلى الشرق الأوسط لإلقاء المحاضرات عن كيفية العيش، وكيفية إدارة شؤونكم الخاصة»، الثاني لنائبه جي دي فانس الذي انتقد في خطاب أخير له فكرة «بناء الأمم والتدخل بشؤون الدول الأخرى»، والثالث لمبعوثه لسوريا توم برّاك الذي كتب في منشور على «إكس»: «لقد انتهى عصر التدخلات الغربية... المستقبل يعود للحلول الإقليمية المبنية على الشراكات والدبلوماسية القائمة على الاحترام».

لو أردنا اختصار الرؤية الترمبية فهي عدم التدخل. ومن الواضح أن ترمب يقصد في حديثه أسلافه. بوش تَدَخَّلَ في أفغانستان والعراق، وبايدن تَدَخَّلَ في أوكرانيا، وأوباما تَدَخَّلَ في «الربيع العربي»، ومن ثم الاتفاق النووي الذي يوصف بأنه سَلَّمَ مفاتيح المنطقة لطهران.

ولكن عدم التدخل فكرة عامة وفضفاضة خصوصاً عندما تعلنها الدولة الأقوى في العالم. ماذا تعني تحديداً؟ من الصعب تخيل أن أميركا ستشكل العالم الذي نعيش فيه لو لم تتدخل في مناطق عديدة من العالم. لو لم تهزم ألمانيا النازية، وتمنع صعود ألمانيا المتوحشة كان من الصعب على أوروبا أن تستقر وتزدهر اقتصادياً. وهذا ما فعلته عندما حولت ألمانيا إلى ديمقراطية مسالمة. لو لم تهزم اليابان وتغيرها سياسياً واقتصادياً لكان من الصعب أن تنتعش الدول الشرق آسيوية التي عانت من الغزوات اليابانية المستمرة. كان من الصعب على الصين أن تغير مسارها وتزدهر لو كانت اليابان العسكرية متأهبة للاعتداء عليها.

ويجادل بعض المؤرخين بأن انسحاب أميركا بعد الحرب العالمية الأولى هو الذي أفضى إلى صعود ألمانيا النازية، وهو الخطأ الذي لن تكرره بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن تعلمت الدرس جيداً.

في الخليج، رأينا التدخل الأميركي الذي حرر الكويت، وأعادها للخريطة بعد أن تلاشت لأشهر. ماذا لو حدث العكس؟ ربما لابتلع صدّام الكويت حتى هذا اليوم. هل كان الخليج سيستقر ويتجه أكثر للتنمية مع وجود جار غاضب يهددهم على الدوام؟ على الأرجح لا. وهذه إشكالية دول الخليج القديمة مع إيران التي زرعت المنطقة بالميليشيات، ورعت التنظيمات العنيفة، وشكّلت خطراً على خططها المستقبلية، وتعمل على عقد شراكة وصلح طويل الأمد على أمل أن يتغير سلوكها.

تنظيم «القاعدة» من أشرس التنظيمات، وهو أكثر خطورة من تنظيم «داعش» الذي احتل مناطق شاسعة من العراق وسوريا، لكنه تلاشى في سنوات قليلة. ماذا لو لم تقرر واشنطن في عهد الرئيس بوش الابن ملاحقة هذا التنظيم الخطير والقضاء عليه؟ ماذا لو قررت كما كانت تنادي بعض الأصوات في واشنطن بالاكتفاء بالقضاء على قيادته وعدم مطاردته في معقله في أفغانستان؟ الجواب مرة أخرى واضح. سنعاني من العمليات الإرهابية في المنطقة، وأميركا ستكون قادرة على حماية أراضيها ومصالحها. رغم بشاعة أحداث 11 سبتمبر (أيلول) فإنها قدمت خدمة كبيرة بالقضاء على «القاعدة»، وتخليص المسلمين من العمليات الإرهابية المخطط لها في ديارهم (لا ننسى أن المسلمين هم أكثر ضحايا العمليات الإرهابية).

كل ما ذكرناه كان تدخلات إيجابية، ولكن هناك تدخلات أفضت إلى نتائج سلبية. التدخل في العراق ومحاولة صناعة بلد ديمقراطي. أثبتت التجربة فشلها لافتقار العراق لأي مؤسسات ديمقراطية سابقة أو ثقافة ليبرالية، ترافق ذلك مع قرارات حل الجيش العراقي، ودخول واشنطن بقوات محدودة بحسب خطة رامسفيلد المتعثرة منذ البداية. وبعد انسحاب الرئيس أوباما سيطرت إيران على العراق، ودخلنا في دوامة جديدة.

بين التدخل الإيجابي والسلبي، ماذا يقصد ترمب تحديداً؟ هناك تفسيران: الأول عدم فرض نظام حكم ونشر آيديولوجيا معينة، حتى لو كانت الديمقراطية. هذه سياسة ذكية لأن لكل الدول مؤسساتها وتاريخها وقيمها وثقافتها الخاصة، وتتطور بحسب إيقاعها الخاص. والمهم في هذه الحالة تقوية العلاقة مع الحلفاء التقليديين لواشنطن الذين أسهموا في بناء النظام السياسي المستقر والاقتصادي المزدهر الذي شكَّل ملامح العالم في العقود الأخيرة. من دون هؤلاء الحلفاء من أوروبا إلى كوريا الجنوبية إلى اليابان إلى السعودية، من الصعب أن نرى العالم كما نعيشه الآن؛ ولهذا، حاول الاتحاد السوفياتي نشر الآيديولوجيا الاشتراكية، والتحالف مع قوى تحارب حلفاء واشنطن والغرب مثل عبد الناصر وماو... وغيرهما. هذا التفسير الأقرب، ولكن يوجد تفسير آخر هو الانعزالية الكاملة تحت ستار عدم التدخل بشكل كامل ومهما كانت الظروف، إلا في حال التعرض للمصالح الأميركية، وهناك من يشجع ترمب على هذا الاتجاه، ومن أبرزهم الرئيس الروسي بوتين الذي احتل دولة ذات سيادة، ولا يريد أن يدفع الثمن، ويبحث عن مكافأة. عدم احترام سيادة الدول أمر بالغ الخطورة، وعدم تدخل قوى عظمى لوقف الانتهاكات كما حدث في حرب صدّام على الكويت سيشجع آخرين على القيام بذات الشيء، وتلقِّي ذات المعاملة.

في تغريدة توم برّاك مبعوث ترمب لسوريا ذهب في سياسة عدم التدخل إلى أبعد مما كان يريد رئيسه، ملقياً باللوم على مشروع سايكس بيكو، وكأن الذي يتحدث من الأنصار المعادين للمعسكر الغربي الذين يلقون اللوم بحس مؤامراتي على مخططي سايكس بيكو، ولكن الحقيقة أن سايكس بيكو أتى بعد الحرب العالمية الأولى بعد هزيمة الدولة العثمانية، وعادة ما يحدث التقسيم بعد انهيار أو هزيمة الإمبراطوريات. حدث هذا مرات كثيرة في التاريخ، أبرزها تقسيم الهند وباكستان بعد ضعف الإمبراطورية البريطانية. والحقيقة ليس «سايكس بيكو» الذي تسبَّب في الحروب والنزاعات والمجاعات وعمليات الإبادة بالغازات الكيمائية. السوريون ثاروا على بشار الأسد، وليس على «سايكس بيكو» الذي خط حدود بلادهم التي يدافعون عنها.


ممدوح المهيني
إعلامي وكاتب سعودي. مدير قناتي «العربية» و«الحدث» كتب في العديد من الصحف السعودية المحلية منها جريدة الرياض، ومجلة «المجلة» الصادرة في لندن. كما عمل مراسلاً لـ«الشرق الأوسط» في واشنطن. وهو خريج جامعة جورج ميسون بالولايات المتحدة.

قراءة المزيد

بوليس الذكاء الاصطناعي… صورة اللحم والدم

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

أخبرني من يعرف، أنه في تايوان يجبرون الطلاب على حلّ واجباتهم المدرسية أمام المدرسين، لضمان ألا يكون الطلّابُ قد استخدموا الذكاء الاصطناعي في حلّ واجباتهم.

وأخبرني من رأى، أنه في مؤسسة إعلامية ثقافية قام أحد الموظفّين (ماعندوش وقت) بنقل موادّ الفيديو، المقابلات خاصّة، عن طريق الذكاء الاصطناعي، إلى نصوص مكتوبة، واعتماداً على أنه لن يدُقّق أحدٌ خلفه، فإنه ينزل هذه النصوص كيفما اتفق، بعُجرها وبُجرها، و«كلّو عند العرب صابون»!

هذا غيضٌ من فيض المخاطر التي تستهدف وظيفة التفكير عند الإنسان، وما هو مستقبلها مع الذكاء الاصطناعي، الذي مع الوقت، كما يشرح أهل المجال، سيكون البديل عن الإنسان، في تفكيره وقراراته، وقدرته الذاتية على البحث والكدح واستخلاص نموذجه الخاص مع المعرفة، الذي يصل له الإنسان «الطبيعي»، ومن خلال تقديره للتعب الذي بذله وهو يصعد إلى قمّة جبل المعلومة، يشعر بقيمتها ويدرك جليل ما فعل، فترسخ المعرفة بمعلوماتها في أعماق مشاعره.

هذه التجربة لن تكون متوفرة وهو جالسٌ على كرسيّه الهزّاز، يطلب من أحد برامج الذكاء الاصطناعي أن يكتب له بحثاً، خاصة البحوث في مجال الإبداع والعلوم الإنسانية، ذات الوشائج العميقة بكينونة الإنسان نفسه، ومعنى أن يكون إنساناً... «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم»... مادياً ومعنوياً.

معضلة هائلة، لذلك انتبهت بعض الشركات التي صنعت لنا «عفريت» الذكاء الاصطناعي، مثل «غوغل» لهذه المعضلة.

مؤخراً؛ أعلنت شركة «غوغل» عن أداة جديدة للكشف عما إذ كان المحتوى قد تم إنشاؤه بمساعدة أدوات الذكاء الاصطناعي التي طورتها «غوغل».

من تفاصيل الخبر يبدو هذا الكشف خاصّاً فقط بما أُنتج عن طريق آلة «غوغل» للذكاء الاصطناعي، وليس حاسم النتائج، ومع ذلك فهو بداية الطريق، الحافل بالمخاوف على مستقبل طبيعة الإنسان، بما هو إنسان.

وفقاً لصحيفة «ذا تايمز»، فإن أربعة من أكثر من 20 منشوراً مشاهدة على «فيسبوك» في الولايات المتحدة خلال خريف العام الماضي كانت «مُنشأة بوضوح بواسطة الذكاء الاصطناعي».

يقول شاعرنا العربي القديم، وحكيم المعلقات، زهير بن أبي سُلمى:

لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه

فلم تبقَ إلا صورةُ اللحم والدمِ!

إذا نابَ عنك من يفكر ويتكلم، لم تبقَ منك إلا الموادّ العضوية الفانية، التي تتشارك فيها مع أصغر الكائنات المجهرية!

نحنُ نتكلم عن مظاهر معينّة لتوظيفات الذكاء الاصطناعي، مظاهر تسلبُ الإنسان إنسانيته وفرادته، وليس عن فوائد هذه الآلية الجديدة في مجالات لا نقاش في فائدتها، مثل الفحوص الطبية، وما له علاقة بالطب... مثلاً.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

المصعد بنى البرج

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

مصطلح «الذكاء الاصطناعي» لا يعبر إطلاقاً عن مدى التحول الذي يحققه في العالم. لكن لا بد من اسم علمي صغير، سهل الحفظ، نشير فيه إلى دنيا هائلة من الآفاق. هذا ما حدث مع الظواهر العلمية الكبرى في عصرنا، من قبل، مثل «الكمبيوتر» الذي أعطيناها اسم «الحاسوب الآلي» الذي يستخدمه البقالون، أو «الهاتف» الذي هو آلة يتهاتف بها اثنان ضمن أرجاء المنزل، وأصبحت شبكة يتواصل بها أهل الكوكب خلال لحظات.

الجميع يتساءل اليوم عما سيفعل الذكاء الاجتماعي في حياتنا. كم من المهن سوف يبيد؟ وكم من البطالة سوف ينشر؟ والجواب أنه سيملأ الأرض خراباً وعماراً معاً. كان لينين يقول، بلطفه الأخاذ: «من لا يعمل، لا يأكل». أما الآن فإن من لا يعمل سوف يجد جيشاً من الأفكار يعمل من أجله.

كان الراديو يملأ حياة الناس. ثم اختفى، وحل محله «الترانزستور». ثم نُسي، وحل مكانه التلفزيون، والآن «نتفليكس». اختفى «المذياع» من البيوت بعدما كان يتصدرها، بوصفه دليل وجاهة. والهاتف المنزلي أصبح لعبة من الماضي، لا تعرف الأجيال الجديدة شيئاً عنها. وكل ما كان حداثة مذهلة، أصبح عتاقة الرفوف.

تغيرت الأزمنة من تلقائها. وغيّرت معها أزمنتنا وحياتنا. وكانت الدنيا تتغير كل قرن، فأصبحت تتبدل كل عقد. وهي لا تستشيرنا، أو تأخذ رأينا في ذلك. كل ما تتركه لنا هو أن ننضم إلى القطيع من دون ضرر، أو إذن.

الحقيقة أن كل شيء في حياتنا تحول إلى «صناعة». وأضخم صناعة على الأرض ليست السيارات، أو الطائرات، بل السياحة. وكان رئيس الوزراء الفرنسي ليون بلوم (1872–1950) قد فرض نظام الإجازة السنوية، وأصبح مع الوقت باباً إلى السياحة لكل الناس في كل طبقاتهم.

كتبت عن هذا الموضوع مع كل تغير. إنه حال الدنيا. كل فترة تتغير علينا، ولا نعود نعرفها. «الثورة الصناعية» كانت اكتشاف الإنسان للبخار الذي غلب به البحار، ووسع الإمبراطوريات. الآن عندما نتحدث عن «الثورة الصناعية» نفكر في العصور الوسطى. ونتساءل كم مرة قفز الإنسان في دنيا العلوم بمحض المصادفة. عندما ذهبت إلى مبنى «الإمباير ستيت» أول مرة، قرأت في منشورها أن الإنسان استطاع أن يبني ناطحات السحاب عندما اكتشف فكرة المصعد الكهربائي، وإلا لكان العالم لا يزال مسطحاً.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

في شأن «القوة الناعمة»؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

مَن يتابع الأحداث الدولية، وقواعد الفكر الاستراتيجي، سيخرج بقناعة أن عواصم مثل واشنطن وبكين وموسكو تتكئ اليوم على نظريات كارل فون كلوزفيتز، الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي من القرن الثامن عشر، ونظريات سون تزو، الجنرال والخبير العسكري الصيني من القرن السادس قبل الميلاد؛ وهذا المنحى يسير ضد بعض التنظيرات الفكرية التي أتى بها مفكرون استراتيجيون من أمثال جوزيف ناي، الذي توفي منذ أسابيع، والذي تأسف في مقالاته الأخيرة للطلاق الذي أحدثه الرئيس ترمب مع القوة الناعمة الأميركية؛ حيث نجده يكتب في صحيفة «فاينانشيال تايمز» اللندنيّة: «أعطته خلفيته في العقارات بنيويورك وجهة نظر خاطئة عن السلطة التي تقتصر على الإكراه والصفقات، وستواجه القوة الناعمة الأميركية لذلك وقتاً عصيباً خلال السنوات الأربع المقبلة».

ولجوزيف ناي، الذي كان عميداً في جامعة هارفارد، كتابان قيّمان، الأول: «ملزمون بالقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية - 1990»، نظر فيه قدرة الأمة على الوصول إلى التأثير العالمي من خلال وسائل غير قسرية، وانطلاقاً من الجاذبيّة والإغواء بدلاً من الإكراه السافر والقوة الخشنة والقوة العارية. والثاني: سمّاه «القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية»، وأكد في أكثر من فصل مزايا الدبلوماسية والقوة الناعمة التي تتأتّى من جاذبيتها الثقافية أو السياسية أو ما سواهما، وهي التي يمكنها أن تحقق الهيمنة الثقافية، فنجده يكتب مثلاً: «إنه، وإن أمكن الوصول إلى الأهداف من خلال القوى الخشنة، ومن خلال استعمال القوة من قبل القوى الكبرى، إلا أنه قد يُشكل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية»؛ لذا فأميركا: «إن أرادت أن تبقى قوية فعلى الأميركيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة».

كان جوزيف ناي يجمع بين التنظير والممارسة؛ لذا كانت كتاباته تتسم بالكثير من الجاذبية، وكان أحد المؤسسين البارزين لكلية كيندي للإدارة الحكومية، وهي بمثابة شركة لإنتاج العقول الاستراتيجية والسياسات العمومية الأميركية، واشتغل مناصب حكومية متعددة في عهد الرئيسين جيمي كارتر وبيل كلينتون.

في عز أزمة «كوفيد»، كتب جوزيف ناي مقالة بـ«بروجيكت سانديكيت» عَنوَنها بـ«الجغرافيا السياسية بعد الجائحة»، وذكر فيها أن تقديرات التأثيرات على المدى الطويل للجائحة ليست دقيقة؛ وأضاف أنه لا يوجد تصور مستقبلي واحد مضمون الحدوث حتى عام 2030، وبدلاً من ذلك يتنبأ بإمكانية حدوث خمسة سيناريوهات محتملة كالتالي:

1- نهاية النظام الليبرالي العالمي.

2- استبداد سلطوي يُشبه فترة الثلاثينات.

3 - نظام عالمي تُهيمن عليه الصين.

4 - أجندة دولية خضراء.

5- استمرار الوضع الحالي.

ولكن هاته النظريات والسيناريوهات العامة، رغم أهميتها تحتاج إلى شرح وإلى تصويب أكبر... صحيح أن الرئيس الأميركي أخذ قرار إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وخرج من بعض المنظمات الدولية، وقبر مسألة القيم التي هي واحدة من قواعد القوة الناعمة. ولكن هل انتهت مظاهر وتأثيرات القوة الناعمة الأميركية؟ بالتأكيد لا، فهي موجودة مع القوة الخشنة والقوة العارية والقوة الذكية؛ لأن الكثير من تجليات القوة الناعمة الأميركية تظهر في منتوجات المجتمع المدني اللامتناهية والمتشعبة والمتطورة، وتعطيها المقدمة عالمياً في مجالات مثل التكنولوجيا والبحث العلمي والسينما والأغاني واللغة الإنجليزية والإعلام وبعض مظاهر الأكل واللباس...

وأفضل مثال يمكن أن نعطيه هنا هو شبكة «نتفليكس» التي وصل عدد المشتركين فيها إلى 301.6 مليون مشترك حول العالم، اعتباراً من عام 2025، وتدفع الصغير والكبير، بل حتى حكومات العالم، للتفاعل مع أعمالها الدرامية والوثائقية... وهذا المثال الذي أعطيه لا تفلح فيه إلا البلدان أو الشركات التي لها صناعة ثقافية كبرى، ويمكنها أن تجلب عدداً وافراً من المستهلكين للثقافة، أي أنها تملك مقاليد القوة الناعمة، وتجعل لغات العالم وثقافات البلدان تحت محك تحديات كبيرة.

وصحيح أننا نعيش في استمرار تآكل النظام العالمي الليبرالي وعودة الفاشية في بعض مناطق العالم، ولكن هذا لن يمنع من ولادة جديدة لليبرالية. فالأزمات الكبيرة قد تؤدي في بعض الأحيان إلى نتائج غير متوقعة في العادة، فالكساد العظيم أدّى إلى انبعاث النعرات الانعزالية والقومية والفاشية، وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. غير أن ذلك الكساد نتج عنه لا محالة إطلاق مجموعة من البرامج الاقتصادية في أميركا، عُرفت باسم «الصفقة الجديدة»، وبروز الولايات المتحدة قوةً عالمية عظمى، وتصفية الاستعمار في نهاية المطاف...

وأخيراً إذا سلّمنا خلافاً لما تكهن به ناي، أنه لن يتم تبني أجندة دولية خضراء أكثر واقعية مع الانعزالية الأميركية، وانسحابها من اتفاقية باريس حول المناخ، فإنه في المقابل ربما سنشهد تصاعد النبرات القومية في العديد من دول العالم، مما سيؤدي إلى تفاقم محتمل للصراع الدولي.


د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون

قراءة المزيد

قراءة أخرى لـ«عيد التحرير» اللبناني

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

هل تحرّر اللبنانيّون فعلاً يوم 25 أيّار (مايو) قبل 25 عاماً؟

الجواب الذي لا يزال الجواب الرسميّ هو: نعم. ومن الجواب هذا انبثق تكريم ذاك اليوم وترقيته عيداً رسميّاً اسمُه عيد التحرير والمقاومة. صحيح أنّ سكّان المناطق التي كانت محتلّة عادوا إلى بلداتهم وقراهم التي جلا عنها الجيش الإسرائيليّ، كما استعيد حضور شكليّ للدولة وأجهزتها. لكنّ من يشاهد واقع حالنا يستغرب أن نكون قد تحرّرنا قبل 25 عاماً، وأن ينتهي بنا الأمر إلى الوضع المزريّ الذي نعيشه راهناً، والذي يشوبه احتلال وتدمير أخرجا الناس من بيوتهم التي سبق أن عادوا إليها.

والعيد، في المقابل، يُفترض فيه أن يعكس قدراً من الرسوخ والديمومة مصدرهما في الطبيعة أو في رواية جمعيّة أو واقعة أو تقليد...

لكنّ الأدعى للاستغراب أنّ الطرف الذي يُنسب إليه تحريرنا في العام 2000، أي «حزب الله»، هو إيّاه الطرف الذي استدعى الاحتلال مجدّداً، لا احتلال خمس نقاط فحسب بل إثقال السيادة اللبنانيّة وقرارها بكوابح وأوزان بالغة الضخامة قد تستمرّ معنا طويلاً وقد نتخبّط فيها طويلاً.

إذاً هناك خديعةٌ ما ينطوي عليها تعبير «التحرير» في حالتنا، وهي من صنف الخدع الأخرى التي لقّمها الحزب للّبنانيّين على مدى الأعوام، من نوع أنّ «زمن الهزائم ولّى» وأنّ «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»...

ولأنّ الوضع الراهن صار يسمح بالشكّ في ما كان الشكّ فيه ممنوعاً، لا بدّ من المضيّ في دحض أعمال التزوير على أنواعها. ذاك أنّ الويل الذي أصابنا بنتيجة «حرب الإسناد»، جعل مساءلة تاريخ المقاومة والتحرير، الذي طغى التزوير على روايته، أمراً شديد الإلحاح والراهنيّة. هكذا غدت إعادة تصويب الماضي شرطاً شارطاً للعيش السويّ في الحاضر وفي الحقيقة، ولإعادة تصويب الواقع تالياً.

أمّا الأكاذيب الفرعيّة الثلاث التي لا بدّ من مواجهتها قبل مواجهة التزوير الكبير فهي:

الأولى، أنّ الاحتلال الأصليّ، في 1978 و1982، أي قبل نشأة الحزب، إنّما حصل من دون حدث، وجاء مدفوعاً فحسب بجوهر ماهويّ رديء ينطوي العدوّ عليه. أمّا أن تكون قد استدعته مقاومة مسلّحة (فلسطينيّة يومها) فأمرٌ يُستحسن حذفه أو طيّه.

والثانية، أنّ مقاومة «حزب الله» ولدت من عدم، علماً بأنّ آخرين، شيوعيّين وغير شيوعيّين، سبقوه إليها وتمّت تصفيتهم على يدها.

والثالثة، أنّ التحرير لم يُرَد له أن يكون مشروعاً جامعاً تماماً كما لم يُرَد ذلك للمقاومة. ففي 2005 مثلاً ظهر في أوساط معارضي «حزب الله» مَن يطرح تسوية يجتمع فيها التحريران – من إسرائيل في 2000 ومن سوريّا عامذاك، على أن تشكّل التسوية هذه نوعاً من رواية مشتركة بين سائر اللبنانيّين. لكنّ اقتراحاً كهذا لم يُواجَه بغير الرفض والتشكيك، فضلاً عن شكر «سوريّا الأسد».

أمّا في ما خصّ العام 2000 تحديداً، فالرواية الفعليّة، هنا أيضاً، أشدّ تعقيداً بكثير ممّا أشيع وعُمّم. فمنذ 1999 أعلن «حزب العمل» الإسرائيليّ، بقيادة رئيس الحكومة يومذاك إيهود باراك، عزمه على الانسحاب من طرف واحد. وردّاً على هذا الإعلان شرع الإعلام اللبنانيّ الموالي لدمشق وللحزب يتحدّث عن «مؤامرة الانسحاب»، ومثله فعل السياسيّون اللبنانيّون الدائرون في الفلك السوريّ – الإيرانيّ. فحينما تحقّق الانسحاب بعد عام، بُعثت إلى الحياة مسألة مزارع شبعا، التي سبق لإسرائيل أن احتلّتها من سوريّا في 1967، واستُخدمت سبباً يبرّر احتفاظ «حزب الله» بسلاحه. وتعزيزاً منها لاحتفاظ الحزب بالسلاح، تجاهلت دمشق سوريّةَ المزارع، علماً بأنّها لم تُقرّ بلبنانيّتها رسميّاً. بيد أنّ «ربط النزاع»، من خلال المزارع تلك، ترافق مع تضخيم آخر طال دور المقاومة في التحرير، فرسمها ضرورة حياة، لا أداة تحرير فحسب.

ومن دون أيّ انتقاص من التضحيات التي بذلها الحزب، وحُملت بيئته على تحمّلها، يبقى أنّ مقاومته لم تكن العنصر الحاسم في إحداث ذاك التحرير، وأنّ أهمّ ما فيها كان تشكيلها أحد العناصر المعزّزة لحجج معسكر السلام الإسرائيليّ في ضرورة الانسحاب من كلّ أرض محتلّة. فخلال 18 عاماً (1982-2000) بلغت الكلفة البشريّة الإسرائيليّة من جرّاء أعمال المقاومة 800 قتيل، أي ما يقلّ عن 45 قتيلاً في السنة الواحدة. وهذا، بحسب المقارنات التي درجت حينذاك، أقلّ من ضحايا حوادث السير في سنة واحدة في إسرائيل.

والحال أنّ كتابة الحزب للتاريخ لا تندرج في أيٍّ من مدارس «المراجعة» (revisionism) أو مدارس «النفي» للرواية السائدة (negationism). وسبب ذلك بسيط، هو عدم وجود رواية سابقة عن الاحتلال والتحرير والمقاومة اضطُرّ الحزب إلى «تصحيحها». ذاك أنّ الأخير ولفيفه هم وحدهم أصحاب الرواية التي لم تبدأ إلاّ معهم. وهكذا أرسي على أيديهم واقع مشوّه ووعي مزغول هدفهما خدمة أغراض محلّيّة وإقليميّة، وهذا قبل أن يتحوّل التشويه والزغل والخدمة إلى «أفق تاريخيّ» مكتوب بالماء.


حازم صاغية
مثقف وكاتب لبناني؛ بدأ الكتابة الصحافية عام 1974 في جريدة «السفير»، ثم، منذ 1989، في جريدة «الحياة»، ومنذ أواسط 2019 يكتب في «الشرق الأوسط». في هذه الغضون كتب لبعض الصحف والمواقع الإلكترونية، كما أصدر عدداً من الكتب التي تدور حول السياسة والثقافة السياسية في لبنان والمشرق العربي.

قراءة المزيد

الهيمنة الحوثية إلى أين؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

هل الحوثي يملك قوة ذاتية يمنية داخلية استثنائية، تجعله يتجاوز كل التحديّات الخطيرة، أو أن المشكلة في خصوم الحوثي أو من يدّعي خصومته؟!

بعد أسابيع استثنائية من القصف الأميركي النوعي على الأهداف الحوثية - إلى الآن لم نعلم حقيقة من ذهب فيها من قيادات الحوثي وقدراته - وبعد قصف إسرائيلي مماثل ردّاً على صواريخ حوثية، عشوائية، لا تقتل عدواً ولاتنكأ جرحاً، لم يتقدّم أحدٌ الصفوف ليكمل على الأرض ما يجري في السماء!

آخر فضائح وبشائع الحوثي، ضد الإنسان اليمني الموجود في الجغرافيا السياسية الحوثية اليوم، ما جرى في مديرية بني حَشيش، التفاصيل المحزنة تذكر أن حيّاً سكنياً بين منطقتي «خشم البكرة» و«صَرِف» في مديرية بني حشيش، فُجع صباح الخميس الماضي، بثلاثة انفجارات عنيفة مجهولة السبب، قبل أن يتَّضح أنها ناتجة عن مخزن ذخيرة استحدثته الجماعة الحوثية وسط المباني السكنية في المنطقة، وعقب الانفجار الأخير اندلعت النيران في المكان لتتواصل بعدها انفجارات الذخيرة في المخزن، مؤدية إلى مقتل وإصابة عشرات السكان، ونقل العشرات منهم إلى المستشفيات القريبة.

تقديرات القتلى من اليمنيين حتى الآن أكثر من 50 شخصاً، مع احتمالية استمرار الوفيات خلال الأيام المقبلة بسبب سوء حالة المصابين الذين يصعب تقدير أعدادهم، خصوصاً أن الشظايا وصلت إلى مناطق وقرى مجاورة، في حين أحصى أحد شهود العيان تهدم وتضرر قرابة 30 منزلاً ومبنى بالقرب من موقع الحادثة.

الحوثي يصّر على الهروب للأمام في مسرحية الصواريخ العابرة للبحر الأحمر، بزعم نصرة فلسطين ولبنان، في حين أن لبنان وفلسطين يعملان اليوم على استعادة السلام الممكن والدولة السليبة والانفكاك من حكم الميليشيات وفوضى السلاح.

هو يصّر على اقتحام ورقة فلسطين ولبنان، لأنه لو تخلّى عنها لواجه حقيقة تعيسة، وهي: حكمه لليمن، وتدبير شأن الإنسان اليمني، معاشه قبل موته، وصحّته قبل جروحه، مستقبله قبل ماضيه، اقتصاده قبل سلاحه، وحدته قبل تشرذمه.

هذه الاستحقاقات هي عنوان هزيمة الحوثي، التي يهرب من مواجهتها، بهذه المسرحيات التي ترتد على الإنسان اليمني إمّا بحروب الدول عليه، أو باستهتار الحوثي بحياة وأمن اليمني (تخزين القنابل والصواريخ وسط حي سكني، مثال لذلك الاستهتار).

لكن السؤال الكبير: متى يستطيع اليمنيون الآخرون، إنهاء الهيمنة الحوثية؟! هل يريد بعضهم «تسليم» البلاد لهم «تسليم مفتاح»، وهل هناك سياسة بلا مخاطرة؟! هل الكل صادقٌ في دعواه خصومة الحوثي، أو هناك من يمدّ معه حبال الودّ في الخفاء، تحت دعوى وحدة الجبهة الفكرية والخلفية الآيديولوجية، بغض النظر عن اللون المذهبي، ونعرف كلنا أن إيران الخمينية تعدّ نفسها راعية «الصحوة» الأولى في العالم الإسلامي، حتى وإن اختلف «الإخوة» يوماً أو أياماً على غنيمة هنا أو هناك، فكما يُقال بالمثل المصري: «مصارين البطن بتتعارك»، لكنها كلها بالنهاية تخدم «معدة» واحدة، وتمدّ دماغاً واحداً بالطاقة؟!

اليمن يستحق أفضل من ذلك، والصدق صابون القلوب كما قِيل من قبل.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

عساكم من عواده

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

لا أعرف كيف أصف عشية الأعياد. ينتابني نوع من الخشية والفرح معاً. أخاف أن أنسى أحداً من أصدقائي، وأخاف أن أتذكرهم، وأتذكر كيف أنني لم أستطع أن أوفيهم جمائلهم. لم يدر الأصدقاء أفضالهم في طريقنا على دروب العمر. وعندما نكبر نكتشف أن الجزء الرحب والمضيء والسعيد من حياتنا كان من صنعهم.

إنهم أقرباء المصادفات وعائلات الأقدار. كل واحد من قطب، وكل واحد من صوب، وجميعاً يشكلون في مجمع اللقاءات حكاية العمر التي كتبت نفسها دون عناء، أو تكلف. الأعياد مجرد تذكير مختصر بملحمة شخصية لا نهاية لها. الحياة مجموعة عناوين، والمودة أجملها. والرضا أعمقها. ولذلك، ننتظر الفرح الذي تحمله الأعياد، لكي تعبّر عنا ما نقصّر في التعبير عنه.

بعض الصداقات يكون العام كله عشية العيد. انتظار يومي في انتظار مناسبة تحمل أمنياتنا ومشاعرنا، والاعتذار من قصورنا، والتعبير عما لا نستطيع التعبير عنه إلا في مهرجان من الصمت.

في انتظار العيد، تتدفق الأسماء من تلقائها. واحداً بعد الآخر. عاماً بعد عام. عالم يتسع للمودات، ويتوسع بلا جهد أو عناء. متكأ الشكوى وغفارة العتب. عندما نرسل الأمنيات الكبرى وكأننا نرسلها إلى أنفسنا: كل عام وأنت بخير. لهم جميعاً. الطيبون والأفضلون وأنبل الرفاق.

في الحالات القاسية لا نبحث عن طبيب، بل عن صديق. كلما ضعفت بنا النفس نعرف أن العلاج في الروح. وفي عشية العيد نتذكرهم واحداً واحداً، وقلباً إلى قلب، لكثرة ما لهم في حياتنا من أثر بُني بحجارة كريمة.

الصداقة هي القلعة ضد الكآبة، والحصن ضد العزلة. والأصدقاء هم العائلة المضافة. أشجار نمت على طريق الحياة، وفيها فيء عظيم. كلما اشتدت الهاجرة على النفس المتعبة، حلّت الصداقة برداً وسلاماً.

إنها عبقرية الوجود، وكتاب الرفاق، ونسائم الأعياد. يعود المرء في العيد طفلاً. يفرح مثل طفل، ويحلم مثل طفل، ويخاف مثل طفل. ويشعر بالوفاء مثل رجل.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

هل بدأ السودان يخطو نحو الحوار الشامل؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

من الصعب أن يتفق السودانيون على أمر في السياسة. الجدل المستمر، والخلاف الذي لا ينتهي، والتمترس وراء الآراء الحدية، سمات ظلت ملازمة للمشهد السوداني منذ أمد طويل، على الأقل منذ الاستقلال قبل نحو سبعة عقود.

من هذا المنظور لم يكن غريباً أن تشتعل المجالس والمنصات السودانية بالجدل الشديد حول قرار تعيين الدكتور كامل الطيب إدريس رئيساً للوزراء. خلاف حول الخطوة، وخلاف حول الشخص. وخلاف حول الخلاف.

تقديري أن القرار خطوة جيدة تنهي حالة الفراغ التنفيذي وشغل المناصب الوزارية بالتكليف. فلأول مرة منذ ما يزيد على ثلاث سنوات بقليل، يعين رئيس وزراء لا يكون مكلفاً فقط، بل بتعيين كامل وبصلاحيات يفترض أن تكون واسعة، وهو أمر سيختبر مع الممارسة والتحديات الكثيرة التي ستتوالى على حكومته في هذه الأوقات الصعبة.

كذلك جاء التعيين بشخصية مدنية مستقلة من التكنوقراط إلى المنصب، ما يرسخ لمبدأ كان مطلوباً بشدة، وتدعو له أطراف كثيرة تريد رؤية خطوات نحو استعادة مسار التحول المدني الديمقراطي الذي تعطل بإطاحة حكومة حمدوك، ونتيجة الصراعات التي فجرت الأوضاع وقادت إلى الحرب الراهنة. الاتحاد الأفريقي رأى الخطوة من هذا المنظور فرحب بها، وعدّها تطوراً مهماً يمكن أن يسهم في جهود استعادة النظام الدستوري والحكم الديمقراطي. كذلك رأتها الجامعة العربية خطوة مهمة نحو استعادة عمل المؤسسات الوطنية المدنية، بينما أعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن أمله أن تكون هذه خطوة أولى نحو مشاورات شاملة لتشكيل حكومة تكنوقراط واسعة التمثيل، مشدداً على ضرورة إعطاء الأولوية لجهود التوافق الوطني.

الحقيقة أن استعادة المسار المدني الديمقراطي تحتاج خطوات كثيرة، وتدرجاً بالضرورة في ظل الأوضاع الراهنة، وظروف الحرب التي فرضت نفسها على كل شيء آخر، وأصبحت هي هم الناس الأول وشاغلهم الأكبر. فقبل تعيين رئيس الوزراء الجديد، كان كثيرون ينتقدون قيادة الجيش ومجلس السيادة بسبب التردد والتباطؤ في تعيين حكومة مدنية كاملة وبصلاحيات تنفيذية واسعة لتحريك دولاب العمل الحكومي، والعمل على تلبية الاحتياجات الضرورية والخدمات الأساسية.

الحكومة الجديدة عندما تُشكل، ستكون مهمة إعادة البناء والإعمار وتوفير الخدمات الأساسية على رأس أولوياتها، كي تعود الحياة إلى طبيعتها تدريجياً، وتتسارع عودة المواطنين النازحين في الداخل أو اللاجئين في الخارج. فهذه ليست حكومة سياسية ببرنامج حزبي، ولا يتوقع منها أن تنخرط في صراعات أو تدخل في تكتلات، بل هي حكومة فنية مهمتها الأساسية يُفترض أن تكون الخدمات، بينما يتفرغ الجيش لمهمته التالية في استعادة السيطرة على كامل كردفان ثم دارفور.

وقد جاء تعيين رئيس الوزراء الجديد بالتزامن مع إعلان ولاية الخرطوم كاملة خالية من «قوات الدعم السريع» بعد دحرها في آخر معاقلها المتبقية، بما يفتح الباب أمام عودة الحكومة ولو بشكل تدريجي لاستئناف عملها من العاصمة، وهي خطوة ستكون لها مدلولات رمزية كبيرة.

الدكتور كامل إدريس استهل تعيينه بإعلان أنه لن يتقاضى مخصصات مالية ولا سكناً حكومياً، وسيقدم شهادة إبراء الذمة المالية، في بادرة حُسن نية يتمنى المرء ألا تكون مجرد خطوة رمزية دعائية. فالمهم هو أن تضع الحكومة الجديدة محاربة الفساد ضمن أولوياتها المتقدمة في وقت أصبحت المجالس تضج بأحاديث الفساد في أروقة الدولة ومراكز القرار. وسيكون هذا الأمر اختباراً حقيقياً لرئيس الوزراء الجديد، لأنه لا يمكن للحكومة أن تنجح إذا لم تحارب هذه الظاهرة المتفشية، ولا يمكن للسودان أن يخطو إلى الأمام، إذا كانت الموارد المحدودة تذهب إلى جيوب المستفيدين لا إلى الخدمات الضرورية وجهود إعادة البناء الملحة. فالفساد سيئ بالمطلق، وفي ظروف الحرب والحاجة إلى إعادة الإعمار فهو كارثي.

السؤال هو هل ستبقى الحكومة الجديدة حكومة خدمات فقط، أم أنها يمكن أن تسهم في بدء خطوات إطلاق حوار سوداني - سوداني؟

لو أننا قرأنا الإعلان عن تسمية رئيس الوزراء الجديد مقروناً بتجديد الحديث عن خريطة الطريق التي قدمتها الحكومة للأمم المتحدة أولا، ثم أكدتها أمام القمة العربية في بغداد هذا الأسبوع، فإن هناك ما يوحي بإمكانية حدوث تحرك نحو الحوار الشامل الذي كثر الحديث بشأنه من دون خطوات عملية لوضعه موضع التنفيذ. فالقيادات العسكرية بعد استعادتها السيطرة على أنحاء واسعة من البلاد وآخرها العاصمة، بدأت تركز على حملتها في كردفان ودارفور، وتتحدث عن أن الحرب في خواتيمها، وفقاً لتقديراتها العسكرية.

من هنا، فإن الباب قد يكون مشرعاً نحو خطوات استعادة المسار الانتقالي والتحول المدني الديمقراطي بدءاً بالحوار الشامل. الأمر لن يكون من دون تحديات، ولن يتحقق بالتمنيات، أو المعادلات الإقصائية الصفرية، بل بالواقعية التي ترى في كل فرصة نافذة تستحق طرقها لا إغلاقها. والحكومة المدنية الجديدة قد تكون فرصة يمكن استغلالها، بدلاً من نسفها.


عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.

قراءة المزيد

حسناً فعلت الكويت

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

المالُ عصَبُ الحياة، وهو أيضاً عطَبُها! نحصر الحديث بالمال الذي يغذّي أوردة التطرّف والشرّ والإرهاب، فلولا المال لما تضخّم جسد الإرهاب والجماعات السوداء في العالم كلّه.

أمّا المال الصريح و«الرسمي» الذي يذهب إلى أفواه الإرهاب، مثل المال الإيراني «النظيف»، كما كان يصفه حسن نصر الله في خطبه الشهيرة من شاشات الضاحية، فليس عنه نتكلّم.

بل عن المال الذي يتدفق، من وراء ظهر الدولة، بخداعها، أو باستغلال ظروفٍ سياسية استثنائية، كما جرى أيام ما عُرف بـ«الربيع العربي»، قبل أكثر من 10 سنوات.

أكونُ أكثر وضوحاً، لقد استغلّ بعض «الإخوان» والسرورية والجماعات «الجهادية»، كما يصفون أنفسهم، طِيبة شعوب الخليج، وحبّهم لمساعدة الأشقاء العرب والمسلمين، بمفهوم «الفزعة»، أي النخوة والنجدة، أو بحافز الثواب الديني وطلباً للأجر الأخروي، فكثرت حملات التبرّع الخيري، المنفلت، من دون رقابة ولا تدقيق مالي.

هذا الوضع كان سبباً، فوق دعم الإرهاب والفوضى في دولٍ أخرى، في تشجيع الفساد، وكما يقال: «المال السايب يُعلّم السرقة»! لذلك فقد أحسنت دولة الكويت، المعطاءُ شعبها، في ضبط هذه المسألة مؤخراً، ونتذكّر كيف كان أنصار «القاعدة» و«داعش» في الكويت قبل بضع سنوات يقومون بحملات جمع الأموال، علناً، بل وتنظيم رحلات الذهاب لشبكات «القاعدة» و«داعش» في سوريا وغير سوريا.

مؤخراً حذّرت وزيرة الشؤون الاجتماعية الكويتية الدكتورة أمثال الحويلة من استغلال التبرعات الخيرية، وقالت: «أغلب التبرعات والمساعدات الخيرية تُوجّه إلى خارج الكويت، بل إن بعض التبرعات الخارجية تضر بسمعة العمل الخيري الكويتي دولياً»، مشدّدةً على أن «سمعة الكويت خط أحمر، ولن نسمح لأي ممارسات فردية أو تجاوزات أن تسيء لهذا الإرث الإنساني العريق».

لتحقيق هذا الهدف، نشأت لجنة خاصّة في الكويت لهذا، وضبط المسألة، والتدقيق المالي، ومراجعة أعضاء وهياكل هذه الجمعيات، وعلى فكرة نحن ضربنا المثل بداعمي «القاعدة» و«داعش»، ولكن الأمر يسري أيضاً على داعمي الجماعات الإرهابية الشيعية من طرف «بعض» المتصدقين لهم.

هذا الإجراء الكويتي المسؤول والضروري، هو أيضاً - كما قالت مصادر حكومية لوسائل إعلام كويتية - يهدف إلى تأمين عبور الكويت مرحلة الرقابة المعززة التي تخضع لها حالياً من جانب اللجنة المالية الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (مينا فاتف)، فضلاً عن تفادي إدراج البلاد بالقائمة الرمادية.

ضبط المال، يعني ضبط الرجال، وصون الأعمال الخيّرة، حتى لا يفسدها سُرّاق المال... والأعمار.


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

جولة ترمب… اختبار عملي للعلاقة مع الخليج

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى الشرق الأوسط بين 13 و16 مايو (أيار) 2025، برزت دول الخليج العربي، وتحديداً المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر، أطرافاً محورية في التحول الجديد في السياسة الخارجية الأميركية، التي باتت تميل نحو البراغماتية والمعاملات المباشرة بدلاً من التحالفات الطويلة الأمد. وقد جاءت هذه الجولة في سياق ضغوط داخلية على إدارة ترمب، بخاصة على الصعيد الاقتصادي مع تصاعد التضخم، إضافة إلى التغيرات الجيوسياسية العالمية التي تشهد تنامي نفوذ قوى مثل الصين وروسيا. لذلك؛ سعى ترمب إلى تأمين مكاسب ملموسة من شركاء أميركا، مدفوعاً برغبة في إثبات فاعلية نهج «أميركا أولاً» أمام الرأي العام الأميركي.

الزيارة كانت بمثابة اختبار عملي للعلاقات بين واشنطن والعواصم الخليجية، وقد أظهر ترمب خلال لقاءاته تفهماً لدور هذه الدول المتنامي في إدارة ملفات إقليمية ودولية معقدة. ففي السعودية، تم التوصل إلى تفاهمات بشأن ضخ استثمارات بمليارات الدولارات في السوق الأميركية، إضافة إلى نقاشات بشأن تنسيق السياسات النفطية بهدف تهدئة الأسعار، التي تشكل مصدر قلق لإدارة ترمب داخلياً. وتوصل الطرفان إلى مقاربة توازن بين مصلحة المملكة في الاستقرار المالي ومصلحة أميركا في ضبط التضخم.

وفي أبوظبي، ركزت محادثات ترمب على الجانب التكنولوجي، حيث طلبت الإمارات تخفيف القيود الأميركية على تصدير الرقائق الإلكترونية عالية الأداء المستخدمة في مشاريع الذكاء الاصطناعي، وهو ما أبدت الإدارة الأميركية استعداداً لمناقشته مقابل التزامات إماراتية باستثمار استراتيجي في قطاع التكنولوجيا الأميركي وتخفيف الاعتماد على الموردين الصينيين.

أما في الدوحة، فقد سعت قطر إلى تأكيد وضعها بصفتها شريكاً أمنياً موثوقاً من خلال المطالبة بتجديد التزامات واشنطن بشأن استمرار الوجود العسكري الأميركي على أراضيها، وتثبيت مكانتها حليفاً رئيساً من خارج حلف «الناتو». وقد أبدى ترمب تفهماً خاصاً للدور القطري بصفتها وسيطاً إقليمياً، لا سيما في ظل الجهود الدبلوماسية القطرية في قضايا مثل غزة وأفغانستان، رغم الانتقادات التي تواجهها قطر في واشنطن بسبب علاقاتها مع بعض الفصائل الفلسطينية. وتم الاتفاق على استمرار التعاون السياسي والأمني، بما يضمن مرونة الدور القطري في الوساطة مع الحفاظ على دعم واشنطن.

من جهة أخرى، يُعتقد أن ترمب ناقش خلال جولته إمكان الحد من انخراط دول الخليج في الشراكات مع الصين، داعياً إلى تقليص التعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع بكين. رداً على ذلك، يقول الخليجيون إنهم يتعاملون مع الصين بصفتها شريكاً اقتصادياً وليس بصفتها بديلاً أمنياً للولايات المتحدة، مؤكدين في الوقت ذاته التزامهم بالتعاون الدفاعي مع واشنطن. وقد بدا أن ترمب أدرك أهمية الإقناع لا الفرض، وتعهد بتقديم حوافز اقتصادية وأمنية مقابل تقارب أوثق مع أميركا.

في المقابل، حضر خلال الجولة موضوع التطبيع مع إسرائيل من خلال الاتفاق الإبراهيمي إذ أكدت الإمارات التزامها بهذا الاتفاق مع رغبة في إعادة تفعيل بعض بنوده.

اللافت، أن دول الخليج لم تكن مستقبِلة سلبية لمطالب واشنطن، بل قدمت بدورها قائمة مطالب واضحة، شملت رفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا، ودعم مشاريع إعادة الإعمار، والمطالبة بدور أكبر في رسم السياسات الإقليمية، بخاصة في ظل تغير موازين القوى. وقد أظهرت هذه الجولة أن الخليج بات لاعباً لا يُستهان به في النظام العالمي الجديد، قادراً على المناورة بين القوى الكبرى من دون التفريط في مصالحه.

في المحصلة، شكلت زيارة ترمب تأكيداً على تحوّل السياسة الأميركية إلى نمط أكثر مباشرةً وتوجهاً لعقد صفقات، لكنها كشفت أيضاً عن نضج متزايد في السياسة الخليجية، التي باتت تستثمر ثقلها المالي والسياسي لتأمين مصالحها الاستراتيجية، وتحديد شروط علاقتها مع واشنطن ضمن عالم متعدد الأقطاب.

إذن، بالنسبة إلى دول الخليج، شكلت الزيارة فرصة واختباراً في الوقت ذاته. فهي ترحب باهتمام واشنطن المتجدد، لكنها باتت أكثر انتقائية واستقلالية في تحالفاتها. لم تعد تقدم الولاء مجاناً، ولن تتجاهل بروز قوى عالمية بديلة.

ما سيتبلور من هذه الزيارة قد لا يكون إعادة تعريف كاملة للعلاقة الخليجية - الأميركية، لكنه بالتأكيد سيوضح معالمها في عصر الاضطرابات العالمية وإعادة توزيع النفوذ.


هدى الحسيني
صحافية وكاتبة لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار»،«النهار» العربي والدولي،«الوطن العربي»،«الحوادث» و«الصياد». حاورت عدداً من الزعماء منهم: الخميني، الملك الحسن الثاني، الملك حسين والرؤساء أنور السادات، حسني مبارك، صدام حسين، جعفر نميري، ياسر عرفات وعيدي أمين. غطت حرب افغانستان، الثورة الايرانية، الحرب الليبية - التشادية، عملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى.

قراءة المزيد

بياع الخواتم

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

مساء الاثنين الماضي، موعد نشرات الأخبار الرئيسة في كل مكان، ذَهلَ المذيعات وهنَّ يقدمنَ للمشاهدين، الذين سوف يذهلون بدورهم، نبأ غير متوقع: الرئيس الأميركي دونالد ترمب يعلن أن التفاوض حول نهاية الحرب الروسية–الأوكرانية، سوف يبدأ فوراً.

شيء شبيه بإعلان الاتفاق على التفاوض حول هدنة الحرب العالمية. قطار ترمب السريع يتوقف فجأة عند أخطر نزاع عسكري يمزق أوروبا منذ ثلاث سنوات. ومهندس (قائد) القطار هو الرجل الذي كان يقول قبل أشهر وسط العجب، والتعجب، إنه عندما ينصرف إلى المسألة، فسوف يحلها في 24 ساعة. الحقيقة أن الرجل قدم نفسه لنا بوصفه صانع عجائب، وليس بوصفه صانع سلام. إنه شخص متخيَّل مثل «بياع الخواتم» في المسرحية الرحبانية. وسوف ترون.

ولكن هل الوقت وقت عجائب، والكرة من تحت هذا العالم لا تعرف في أي اتجاه تدور؟ لا يوجد شيء بعيد، أو مستبعد عند «الرئيس الطائر». وعندما تهبط الطائرة الرئاسية، وتطفئ محركاتها، لكي تكون على استعداد للإقلاع الفوري في الرحلة التالية، بعد الإعلان عن نبأ التفاوض بين موسكو وكييف بساعة، كان البيت الأبيض يبلغ رؤساء أوروبا بالأمر. سوف يكون هذا شيئاً تاريخياً مثل تلك المؤتمرات التي أعطت أسماءها سلام العالم. وعلى الذين شككوا في جديّة الرجل أن يسارعوا إلى الاعتذار بطريقة ما. لا يكف عن العمل، ولا يكف عن التحدث، ولا يكف عن السفر، ولا يكف عن الوعد بحل القضية التالية... هذا لا يعني أن كل شيء قد انتهى، لكن بالتأكيد، كل شيء قد بدأ. والمسائل ليست بهذه السهولة الرومانسية، لكن الحلول خلال 24 ساعة أصبحت على الطاولة.

القول إن حل النزاع الأوكراني-الروسي ممكن خلال 24 ساعة يعارض كل منطق. ولذلك، سوف يصر عليه.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

من أشعل حرب طرابلس؟

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

هذا سؤال يتردد وفي حاجة لإجابة دقيقة عنه، بعد أن انطلقت مظاهرات تطالب بإسقاط الحكومة في طرابلس التي اتهمها بيان عمداء البلديات والتحركات الشعبية بالقتل واستخدام السلاح لقمع المتظاهرين، الأمر الذي عبرت عنه البعثة الدولية بالقلق وتحذير الحكومة من تكرار الاعتداء على المتظاهرين من قبل حكومة غير منتخبة ديمقراطياً، فقط جاءت نتيجة اتفاق سياسي ولا تريد أن تغادر إلا عبر الانتخابات؛ في ثنائية شيزوفرينية.

البعض نسب الحرب لغريزة البقاء التي تعاني منها حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية بحكم سحب الثقة منها من قبل البرلمان الشرعي في البلاد، فكأن هذه الحكومة كان شعارها: «نحكمكم أو نخرب بيوتكم»؛ خياران لا ثالث لهما تعلنهما الحكومة بكل عنجهية وتسويف وتجاهل للأزمة الليبية التي تتفاقم وتتشظى، رغم جميع المحاولات المتعددة لإعادة تجميع الفرقاء.

وقد جاء بيان لعمداء بلديات المنطقة الغربية والجبل الغربي ليدعو جميع الليبيين للانتفاض وإسقاط حكومة الدبيبة، حيث ورد في البيان: «نطالب مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والشرطية للانحياز الكامل للشعب الليبي، ودعم انتفاضته الشعبية. حكومة الدبيبة استخفت بدماء أبناء العاصمة، وباعت ورهنت تراب ليبيا للاحتلال الأجنبي، وندعو الشعب الليبي لإطاحة هذه الحكومة العميلة، التي فرطت في السيادة الوطنية ومقدرات الوطن وأزهقت الأرواح، ندعو لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتشكيل حكومة وطنية توافقية»، وطالبوا مجلسي النواب والدولة وبشكل عاجل، بتسمية رئيس حكومة وطنية جديدة تتولى زمام الأمور، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد تغول الميليشيات وعجز الحكومات المتعاقبة عن احتواء الميليشيات، بما في ذلك حكومة الدبيبة ورضوخها لسطوة الميليشيات لدرجة شرعنتها بوصفها قوات نظامية، في حين هي تدين بالولاء لأمراء الميليشيات، ولا تمتلك الحكومة أي سلطة عليها، سوى أنها تدفع لها الإتاوات.

فالميليشيات في العاصمة تشكلت على أساس المال والمصالح المشتركة، وأخرى جهوية كميليشيات من مدينة مصراتة التي تدعم رئيس الحكومة من باب الحمية القبلية، وأخرى من الزنتان، اللتين تتنازعان تقاسم النفوذ في العاصمة، في مقابل ظهور ميليشيات «طرابلسية» التشكيل، مثل ميليشيا غنيوة الذي قتل مؤخراً في كمين نصب له.

واعترف رئيس الحكومة بقتل القوة المسلحة التي تحمل رقم 444، قائدَ جهاز دعم الاستقرار، الذي وصف بقائد ميليشيا، في حين أنَّ القوة التابعة له هي بحكم قرار من رئيس الحكومة نفسه وتكليف غنيوة بترؤس جهاز دعم الاستقرار، الذي وصف في أول خلاف بأنَّه ميليشيا، واعتراف رئيس الحكومة بسطوة الميليشيات بذلك في خطاب متلفز بعد انتهاء العمليات القتالية في طرابلس.

مقتل قائد جهاز دعم الاستقرار قد يكون جزءاً من خطة التخلص من قائد ميليشيا في ثوب مشرعن مسبقاً.

صحيح أن تاريخ الرجل مثقل بالدماء والنهب والابتزاز، لكنه ليوم مقتله كان مشرعناً رسمياً من حكومة تنصلت منه بمجرد مقتله، في حين كان يتسلم الملايين من الدنانير شهرياً من هذه الحكومة.

طرابلس العاصمة الليبية أسيرة لمجموعة من الميليشيات المسلحة ذات الطابع الإجرامي والمتطرف، حيث تتنوع فيها الولاءات بين الإسلام السياسي المتطرف، وآخر إجرامي للدفع المسبق كبنادق مستأجرة.

طرابلس ميدان سيبيتموس سيفيروس، وطرابلس شارع عمر المختار والسرايا الحمراء وميدان الشهداء وميدان الغزالة، هي اليوم أسيرة ميليشيات الدفع المسبق، حيث سيطرت هذه الميليشيات على العاصمة طرابلس منذ الأيام الأولى لحراك فبراير (شباط) 2011 الذي انتهى بالفوضى وانتشار السلاح، إذ لم يكن هناك أي نية صادقة أو جهد صادق لجمعه ولملمة الفوضى من قبل حلفاء «الناتو» الذي أسقط الدولة الليبية وتركها نهباً للميليشيات، التي أغلبها يدعي التبعية للدولة ويرتدي الملابس العسكرية، ويتقاسم تبعيتها الشكلية تحت وزارات كالداخلية أو الدفاع، بينما الحقيقة هي جماعات غير منضوية تحت سلطة الدولة، بل ميليشيات نهب ومال أسود تتحكم به في قهر السكان ورهن البلاد.

طرابلس اليوم تبتلعها نيران الميليشيات، وتغيب فيها سلطة الدولة وسط سطوة المدافع والبنادق، فارتهن القرار السياسي في مؤسساتنا لتوازنات قوى خارجية تتقاسم النفوذ، ومواردنا النفطية، وتُنهب خزائن المال العام.

حكومة طرابلس سقطت برلمانياً وشعبياً بعد أن فقدت مصداقيتها، واستخدمت السلاح لقمع المتظاهرين السلميين الذين ضاقوا ذرعاً بالميليشيات وجحيمها.


د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».

قراءة المزيد

زيارة ترمب بداية عهد جديد بين السعودية وأميركا

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

شكّلت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للمملكة العربية السعودية الأسبوع الماضي، تحولاً حاسماً واستراتيجياً للعلاقات السعودية - الأميركية، إذ أثمرت نتائج فاقت التوقعات.

فخلال الزيارة وُقّعت مجموعة من الاتفاقيات الكبرى عكست توافقاً استثنائياً لمصالح البلدين، وأكّدت مكانة المملكة الرفيعة في القيادة الإقليمية. وكانت لإشادة ترمب اللافتة بولي العهد محمد بن سلمان وثنائه على برنامج الإصلاحات في المملكة، وتأييده غير المشروط لسياسة المملكة تجاه القضايا الإقليمية مثل العراق وسوريا، وكذلك قضية التعاون الأمني دلالة على تحول واضح في الحسابات الاستراتيجية الأميركية.

وليست نتائج الزيارة في صالح أولويات المملكة فحسب، بل تجاوزتها، مما يمهد لعهد سعودي جديد من النفوذ والاستثمار والتواصل الدبلوماسي. كما أعرب ترمب عن دعمه المطلق لولي العهد، وأثنى على قيادة المملكة الإقليمية، وأكّد توافق المواقف الأميركية مع المملكة تجاه القضايا المتعلقة بالدفاع والاستثمار وقضية إيران وسوريا وأمن الخليج.

وأثمرت الزيارة توقيع استثمارات سعودية بقيمة 600 مليار دولار في مختلف القطاعات الأميركية، مثل الطاقة والمعادن الحيوية والبنية التحتية والتقنية المتقدمة. وأصبحت هذه الاستثمارات - التي سبق الاتفاق المبدئي عليها - قيد التنفيذ، مما يعزز الترابط الاقتصادي، وفي الوقت نفسه يخدم ذلك أهداف التنويع الاقتصادي في إطار «رؤية المملكة 2030». وستستفيد الشركات الأميركية من تدفق رأس المال، ومن الشراكات الصناعية ومشاريع الابتكار المشتركة.

كما أكّد حضور عدد من الرؤساء التنفيذيين الأميركيين، مثل إيلون ماسك وجين - سون هوانغ، ولاري فينك، في «المنتدى السعودي - الأميركي للاستثمار» الذي عُقد خلال زيارة ترمب، تنامي ثقة القطاع الخاص الأميركي في مسار المملكة الاقتصادي. ووُقّعت أيضاً اتفاقيات في قطاعات، مثل الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والخدمات اللوجيستية والتصنيع المستدام، مما يعزّز الدور القيادي الأميركي بمجال التقنية في خطط المملكة التنموية.

وفي مجال الدفاع، وُقّع اتفاق تسليح بقيمة 142 مليار دولار، وهو حجر أساس لأجندة استراتيجية جديدة، إذ يمنح المملكة قدرات متقدمة في الدفاع الجوي والصاروخي، ومنظومة المسيّرات والأمن السيبراني والتصنيع المحلي للأسلحة. وكل ذلك يصب في تعزيز قدرات الردع والجاهزية العملياتية للمملكة، وهي حاجة مُلحّة في ظل تصاعد التهديدات الإقليمية، واستمرار النزاعات في المنطقة.

ويُمثّل هذا الاتفاق من دون شك تجديداً للثقة الأميركية في مكانة المملكة بصفتها ركيزة لأمن الخليج، وبالمثل فإن تأكيدات ترمب حول التعاون العسكري الأميركي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، واستعداد واشنطن لحماية حلفائها في الخليج، تعيد الثقة التي اهتزت خلال فترات الإدارات الأميركية السابقة. كما أكّدت الزيارة توافق وجهات النظر الأميركية - السعودية بشأن إيران، إذ تحدث ترمب عن المخاوف السعودية، وأوضح أن أمام طهران مسارين: إعادة الاندماج في المنطقة من خلال تغيير سلوكها، أو استمرار سياستها وعزلتها الدولية. وأكد ترمب في خطابه خلال القمة الخليجية - الأميركية على التباين بين سياسة الإصلاح التي تتبناها وتقودها المملكة وبين سياسات إيران في المنطقة، مما أعطى دلالة واضحة على التقارب الاستراتيجي.

وتواصل الولايات المتحدة فرض الضغوط على برنامجي إيران النووي والصاروخي، وعلى وكلائها الإقليميين، أما المملكة فقد تبنت سياسة متوازنة تجمع بين القنوات الدبلوماسية التي فتحها الاتفاق مع إيران بوساطة صينية، وبين خط ردع متين يستند إلى علاقاتها الدفاعية مع الولايات المتحدة. وترسل القمة الأخيرة رسالة مفادها أنّ إطاراً أمنياً خليجياً جديداً قيد التشكل، يقوم على عزم الإرادة السعودية، وتجدد الدعم الأميركي.

وكان أبرز ثمار الزيارة هو تحول الموقف الأميركي تجاه سوريا، إذ جمع ولي العهد ترمب بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في جلسة غير رسمية، وشكّل ذلك تأييداً فعلياً لجهود التطبيع مع سوريا التي تقودها الدول العربية. وأسفر الاجتماع عن رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وإفساح المجال للدول الإقليمية للمساعدة في مسألة الانتقال السياسي السوري، بما يعني إقراراً ضمنياً من واشنطن بدور الرياض المحوري في دبلوماسية الأزمات. ولهذا الدور القيادي ما يبرره، إذ شكّلت الرياض الإجماع على دعم سوريا في الجامعة العربية، وأعطت الأولوية لإعادة الإعمار، والاستقرار والاندماج التدريجي في المؤسسات الإقليمية. ويؤكد ذلك على الدور السعودي المتنامي في قضايا الوساطة الدبلوماسية، والقدرة على الموازنة بين التوافق العربي والتوجهات الدولية.

وفيما يخص القضية الفلسطينية، فقد أيّد ترمب جهود السلام، ولم يربط إقامة دولة فلسطينية أو العلاقات الاستراتيجية مع دول الخليج بالتطبيع مع إسرائيل، وقال إن التطبيع مسألة تقررها دول المنطقة بنفسها، سواء المملكة العربية السعودية أو سوريا، في التوقيت المناسب لها.

كما أكد قادة دول الخليج، خلال القمة الخليجية - الأميركية، وولي العهد على الخصوص، على مركزية حل الدولتين في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على أساس حدود 1967، وهو ما تنص عليه مبادرة السلام العربية التي قدمتها المملكة عام 2002.

وأيضاً، فإن غموض سياسة ترمب تجاه تسوية السلام في الشرق الأوسط يمنح المملكة هامشاً استراتيجياً، ويتيح لها فرصة إعادة التأكيد على موقفها الثابت تجاه حقوق الفلسطينيين؛ وفقاً لمبادرة السلام العربية، وفرصة النظر في التطبيع وفق وتيرة تحددها هي، بعيداً عن أي تدخل خارجي، أو ربط ذلك بمفاوضات السلام النهائية. وهذا النهج يعزز المرونة الدبلوماسية السعودية، ويرسخ مكانة المملكة بصفتها قوة قيادية مستقلة وموثوقة في جهود السلام الإقليمية.

وإذا ما نظرنا إلى ثمار الزيارة بشمولية، فإنها تشير إلى توافق عام في السياسات الأميركية - السعودية، وابتعاد العلاقة بين البلدين من الارتكاز على روابط الطاقة والدفاع التقليدية إلى شراكة استراتيجية شاملة تشمل الاستثمار والدبلوماسية الإقليمية والتنسيق الأمني؛ إذ تتولى الرياض القيادة في كثير من المبادرات الإقليمية، فيما تُعيد الولايات المتحدة تشكيل صورتها ودورها بوصفها شريكاً داعماً وموثوقاً. ويتضح هذا التحول في التصريحات الثنائية، وكذلك في خطاب ترمب ورمزية زيارته، سواء في تصريحاته في «منتدى الاستثمار»، أو في التنسيق المدروس للقمة. وكذلك يتضح التحول في تأكيد ترمب تضامن الولايات المتحدة مع دول الخليج العربي خلال زيارته للدوحة وأبوظبي بعد الرياض، وفي الاتفاقيات التي وقّعها هناك. وعلى مر العقود صمدت الشراكة السعودية - الأميركية أمام تحديات كثيرة، بدءاً من الحرب الباردة، وأزمات النفط والإرهاب، وصولاً إلى التوترات الدبلوماسية. وفي مشهد يكرر ولايته الأولى، فإن زيارة ترمب الأخيرة للرياض تعكس متانة هذا التحالف، وتمثل تصحيحاً لسياسة الانسحاب الأميركية السابقة من الشرق الأوسط.

ولا يشير دعم ترمب الواضح لـ«رؤية المملكة 2030»، وسياساتها المتعلقة بالإصلاح الاجتماعي، وكذلك سياساتها الإقليمية، سوى إلى التحول الكبير في المملكة من السياسة المحافظة القائمة على النفط إلى كونها لاعباً ديناميكياً متعدد العلاقات الدولية. ويرسل تأكيد البيت الأبيض على الدور القيادي للمملكة رسالة عامة مفادها أنه لا غنى عن المملكة بسياستها الإصلاحية والموثوقة في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي.

فلطالما أكدت السياسة الخارجية السعودية على التوازن والتنويع، إذ عززت المملكة علاقاتها بالصين، وعمّقت علاقاتها النفطية والاستثمارية مع الهند، وعملت مع روسيا في مسألة تنسيق سياسات «أوبك بلس»، وكل ذلك مع محافظتها على شراكتها الأساسية مع واشنطن.

وليس هذا التعدد الاستراتيجي في العلاقات رفضاً سعودياً للقيادة الأميركية، بل هو انعكاس للاستقلالية المتنامية للمملكة. وتشجيع ترمب لهذا النهج المرن، بدلاً من النظر إليه كأنه تهديد، هو تأكيد براغماتي على ضرورة إدارة التحالفات في عالم متعدد الأقطاب.

ورغم استمرار بعض الخلافات، خصوصاً بشأن أسعار النفط وتدفق العملات والتوجهات الدولية، فإنها تظل قابلة للإدارة ضمن إطار التعاون الجديد، إذ تربط البلدين الآن مصالح جوهرية أكثر من أي وقت، تتمثل في قيادة مشتركة لضمان الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، والتعاون السيبراني، والتوافق الاقتصادي بعيد الأمد.

كما أن الاستثمار السعودي في قطاعي البنية التحتية والتقنية الأميركيين يقدم عوائد ملموسة للعمال والشركات هناك، بينما تسهم الخبرات الأميركية في تسريع تجاوز المملكة للاقتصاد النفطي.

وفي الفترة المقبلة، تتطلع الرياض إلى اتساق استراتيجي واستمرارية مؤسسية من واشنطن، وفي المقابل فإنها تقدم رأس المال والقيادة الإقليمية، والتزاماً مشتركاً بالأمن والابتكار.

وفي حال استمرار الطرفين على هذا المسار، فإن زيارة ترمب ستُخلد ذكرى دخول العلاقات السعودية - الأميركية عهداً جديداً، بعيداً عن التبعية أو الاعتمادية، يقوم على الاحترام المتبادل، والرؤى المشتركة، والمسؤولية المشتركة حول مستقبل الشرق الأوسط وما بعده.


د. علي عواض عسيري
سفير السعودية الأسبق لدى لبنان

قراءة المزيد

ياسمين حسان ياسين

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

هناك من يرى أنّ الجغرافيا هي التي تخلق طبائع أهلها، وأن تقاطعات الطرق التجارية ودروب الغزاة منذ فجر التاريخ هي التي تشكل ملامح الشخصية المجتمعية والفردية لقاطني تلك الجغرافيا. مثلاً: الجزيرة الفراتية بين سوريا والعراق، أو بلاد الجزيرة كما كانت تعرف في التاريخ، كانت دوماً موطناً لثورة القبائل العربية، ثم موطناً خاصاً ببادية الخوارج، أمثال الوليد بن طريف الشيباني، الذي دوَّخ الدولة العباسية في عز مجدها أيام هارون الرشيد، حتى بعث له رجلاً من أبرز القادة العرب في الدولة العباسية، وهو يزيد بن مزيد الشيباني الوائلي، فانتصر يزيد على الخارجي الوليد، ابن عشيرته، فقال الشاعر في ذلك:

وائل يقتل بعضها بعضاً

لا يفل الحديد إلا الحديد!

وقالت فيه أخته «الفارعة» مرثيةً رائعةً جاء فيها:

أيا شجر الخابورِ مالكَ مورقاً

كأنك لم تحزنْ على ابن طريف

فتى لا يحب الزادَ إلا من التقى

ولا المالَ إلا من قنا وسيوف

ثم ننتقل من لحظة هارون الرشيد إلى وقتنا لنرى أن هذه الجغرافيا كانت هي دولة «داعش»، ثم «الحشد»، ثم «قسد»، أو تتجاور أحياناً هذه القوى على نفس هذه الجغرافيا! هذه نظرية تشبه الحتمية ولها أنصارها ومفسروها، وهناك من يرفض هذه الحتمية، ويرى أن الإنسان كما يستطيع التخريب والفوضى يقدر على البناء والانتظام... هو قرار الفرد أو المجتمع، ولتذهب الحتميات للجحيم.

بالأمس قرأت مقالة مؤثرة للمخضرم الأستاذ حسان بن يوسف ياسين، في هذه الجريدة، بعنوان: «إني أشم ياسمين الربيع»، ومما جاء فيه أننا: «عانى الشرق الأوسط أكثر من أي مكان آخر، ومع ذلك نظل متفائلين بأن السلام يمكن أن يتحقق. نحن نختار ألا نؤجج اللهيب الذي خلق الكثير من الصراع والكراهية في الماضي؛ بدلاً من الموت والدمار، نختار نشر الأمل، وجلب أمطار السلام على أشجار ياسميننا، نستنشق رائحته الجميلة وننضم معاً في نزهة من السلام الدائم في ظلاله. بتكاتف الأيدي، يمكننا الوصول إلى أرض السلام الموعودة».

يمكن إذن ألا يكون الخراب، وألا تكون الفوضى هي (قدر) الشرق الأوسط، مع وجود قادة يزرعون الأمل وينثرون بتلات الياسمين على خدود الصحراء. والزارع الأكبر رجل اسمه: محمد بن سلمان.

نعم الصحراء واعدة دوماً بالهواء النقي ومفاجآت الربيع، أو كما صور حسان ياسين - عافاه الله - الأمر على هذا النحو: نحن نعلم أن الصحراء التي تبدو جافة يمكن أن تحتضن ازدهاراً مدهشاً من الزهور. الماء ثمين وإعجازي، يمكننا جميعاً أن نضيف قطرتنا لنرى ازدهار ياسمين السلام».


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

حياة عادية

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

... وإليكم هذا النبأ البالغ الأهمية: القمة العربية الرابعة والثلاثون تنعقد في بغداد! ولكن أليس هذا نبأ عادياً؟ تقول الزميلة فتحية الدخاخني (المصري اليوم) إن الكهرباء تنقطع عدة مرات في اليوم، كأي عاصمة عربية. وإن لطف العراقيين يعوض ويتحول إلى إضاءة فورية. لا أخبار عاجلة من بغداد. لا أبطال يفجرون المارة في الشوارع، ولا جثث تتطاير في الهواء من دون أن تعرف لماذا، والتلامذة الصغار يذهبون إلى المدارس ويعودون.

هذا هو الحدث في العالم العربي اليوم: الحياة العادية. الشارع الآمن، والمصانع الآمنة، ومحلات بيع «المن والسلوى». وقد كان ذلك صعباً، أو مستحيلاً، في السنوات الأربع والثلاثين الماضية. كانت في العراق أحلام كبرى مثل احتلال الكويت لاستعادة فلسطين. ودحر إيران من أجل توحيد العرب، وقتل مليون عراقي في سبيل حياة أفضل. لا أذكر أن العراق عرف يوماً طبيعياً منذ 1963. من أجل الأمة الماجدة، وصل بالانقلابات الطموحة إلى موريتانيا. وقرر إحياء أسطورة جلجامش. وعرّج على بابل. وعلق «وجبات» الإعدام في ساحات بغداد. وبعد أماجد «البعث»، جاء أماجد «داعش»، وإحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً، كنموذج للحل الداعشي الأثير.

لم يعد العراقي يريد شيئاً سوى أن يذهب إلى عمله ويعود. لا أمجاد العباسيين، ولا «بيوت الحكمة»، وعز المأمون وأزمنة الثقافة. كل ما يريد يوم عادي بسيط، بسيط. الحياة فيه كالحياة، والموت كالموت.

هذا ما يعد به العراق اليوم. تقول فتحية الدخاخني في رسالتها: إن بغداد تنكشف عن عاصمة حذرة، ولكن عن خطوات ثابتة في طريق العودة إلى حياة العواصم. ولعل أكثر ما يحلم به العراقي الآن أن يصبح قادراً، مثل أي بشري في كل مكان، على شراء بطاقة سفر والتوجه إلى المطار من دون حماية مسلحة، أو أن يشعر، من جديد، بأنه ينتمي إلى بلد عريق غني بالثروات البشرية والطبيعية.

كم أهدر وأضاع هذا البلد ما بين الرافدين والنهرين، ولا ينقصه في المثنيات سوى الطمأنينة، وهي الأكثر أهمية.


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

سُلاف فواخرجي… وفخّار السياسة

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

حكاية الفنّان والسياسة، لا توجد لها خاتمة، هي ظاهرة دائمة، مع كل فنّان اختار إظهار لونه السياسي، يربح جمهوراً ونفوذاً وغير ذلك من المغانم، مع بقاء من فضّلهم سياسياً على القمّة، والزمان معهم حلو المُحيّا، لكنه يُنكب إن نُكب من والاهم سياسياً. في كل مكان وزمان يحدث هذا، في تاريخنا وتواريخ الآخرين، منذ أيام الأمويين بدمشق إلى اليوم.

على ذكر الأمويين ودمشق، نعلمُ قيمة وأثر الفنّ السوري، خاصة الدراما، في العالم العربي أجمع، منذ عشرات السنين، واليوم بعد زلزال الانهيار الأسدي وقيام سلطة قلقة وريثة لعهودٍ مريضة، كان من ملامح التغيير وصول نقيب جديد للفنانين السوريين، معارض للنظام، مثل بعض الفنانين الآخرين، وهو مازن الناطور الذي رجع لمنصبه بعد بيان عزله من بعض زملائه الفنانين.

كان من دواعي بيان العزل قرارات الناطور، ومن أهمّها في نظر منتقديه، فصل الفنانة السورية سُلاف فواخرجي بذريعة أنَّها ظلّت مؤيدة للأسد، ولم «تُكوّع» مثل الآخرين، حسب المصطلح السوري الظريف.

النقيب الجديد، الناطور، كان قد فصل الفنانة سلاف فواخرجي من النقابة، استناداً إلى «النظام 40، الفقرة 58» من النظام الداخلي للنقابة، الذي يُجيز شطب قيد أي عضو «يسيء إلى سمعة الجمهورية العربية السورية أو ينافي الآداب العامة».

الحال أنَّ الفنانين السوريين انقسموا خلال العقد الماضي، أي بعد بداية الحرب الأهلية السورية، لثلاثة أقسام:

قسم مؤيد للنظام بحماسة ظاهرة، وقسم مناهض للنظام، بالحماسة نفسها، وقسم ثالث شبه محايد. وهناك أمثلة كثيرة على مواقف سياسية لبعض الفنانين خلقت جدلاً حولهم، أحياناً تمّت فيها الاستعانة بسلطة الدولة أو سلطة الجماهير، لسحق المخالف.

في العالم العربي لدينا فنانون في مصر مثل: حسين فهمي وأحمد رمزي، من أنصار النظام الملكي وخصوم النظام العسكري الجمهوري.

في العالم الغربي هناك من اُتهم بكونه فنّان النازية، مثل الموسيقي الألماني فاغنر، وهناك من اُتهم في هوليوود، في عزّ الحرب الباردة، بالشيوعية والعمالة للسوفيات.

حتى (كوكب الشرق) أم كلثوم كادت تسحقها مجنزرات الثورة «الثقافية» في مصر عقب سقوط الملكية.

لدينا، حول هذه الواقعة، رسالة دبلوماسية نادرة - سبق التنويه لها هنا - مؤرّخة بالشهر الخامس بعد الذكرى الأولى لسيطرة الضباط على الحكم، في السنة السابقة، وهي 1952.

الشهادة التاريخية التالية هي من «محمد الطبيشي» قنصل السفارة السعودية بمصر، وفيها أنه بعد موافقة الملك عبد العزيز:

«حضر عندي كل من الأستاذ محمد عبد الوهاب والسيدة أم كلثوم، وقالا هل كان لدينا أو لغيرنا اتخاذ قرار حُرّ في ذلك الوقت، لقد كان يُفرض علينا الأمر فرضاً، ولم نكن نستطيع أن نرفض، إننا الآن قلباً وقالباً مع الثورة المباركة».

بفضل الشفاعة السعودية هذه، رُفع الحظرُ عن أم كلثوم وعبد الوهاب.

الفنّان قيمته الجوهرية، في فنّه، وليس في مواقفه السياسية... «وليس كبيرُ القوم من يحمل الحِقدا».


مشاري الذايدي
صحافي وكاتب سعودي. عمل في عدة صحف ومجلات سعودية. اشتغل في جريدة المدينة السعودية في عدة أقسام حتى صار عضو هيئة التطوير فيها. ثم انتقل لـ«الشرق الأوسط» من 2003، وتدرَّج بعدة مواقع منها: المشرف على قسم الرأي حتى صار كبير المحررين في السعودية والخليج، وكاتباً منتظماً بها. اختير ضمن أعضاء الحوار الوطني السعودي في مكة المكرمة. وشارك بأوراق عمل في العديد من الندوات العربية. أعدَّ وقدَّم برنامجي «مرايا» وبرنامج «الندوة». في شبكة قنوات «العربية».

قراءة المزيد

أنور السادات الجنرال الداهية

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

الضباط المصريون الذين قادوا حركة الجيش المصري ضد الملك فاروق، في 23 يوليو (تموز) سنة 1952، حملوا رتباً عسكرية متوسطة بين الرائد والمقدم. في ساعات قليلة تمكنوا من السيطرة على مصر، وأخرجوا الملك من البلاد. شكَّلوا مجلساً لقيادة الثورة برئاسة اللواء محمد نجيب. كانت خبرتهم السياسية محدودة، ودخلوا مبكراً في حراك سياسي واجتماعي واقتصادي داخلي وخارجي. اللواء نجيب كان الورقة التي كُتب عليها عنوان حركة الضباط، بحكم ثقل رتبته العسكرية وحضور اسمه، بصفته شخصية وطنية غير محسوبة على الملك فاروق. بعد إبعاد اللواء محمد نجيب عن حلبة السلطة، تقاسم أعضاء مجلس قيادة الثورة المناصب الوزارية، والمراكز الإدارية والأمنية والسياسية. شخص واحد من بينهم احتفظ بكرسي الظل، خلف جمال عبد الناصر الذي كان يسميه المعلم، وهو البكباشي أنور السادات الضابط الوحيد من بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، الذي سُجن في العهد الملكي، وطُرد من الجيش، ووُجهت له تهمة الاشتراك في اغتيال الوزير أمين عثمان. هام السادات على وجهه متنكراً، ومارس أعمالاً متواضعة من أجل لقمة العيش. لكنه لم ييأس أو يُحبط، وتمكن بدهائه أن يعود إلى الجيش، ملتحقاً بالحرس الملكي الحديدي. ضمّه جمال عبد الناصر إلى الخلية الأولى في تنظيم الضباط الأحرار. في ليلة القيام بالثورة، ذهب مع زوجته جيهان إلى السينما، وافتعل مشاجرة مع رجل يجلس بجانبه في قاعة العرض، واشتكاه في قسم للشرطة؛ تحسباً لما قد يحدث إذا فشلت الحركة وتم القبض على شركائه في التنظيم العسكري. نجحت الحركة وقام أنور السادات بإذاعة بيانها الأول. في ملاسنة بينه وبين زميل له في مجلس قيادة الثورة، قال له لقد تهربت ليلة الثورة وافتعلت معركة في السينما، رد عليه السادات قائلاً، أنا الوحيد بينكم جميعاً الذي دخل السجن لأسباب سياسية. في لقاء طويل لي بطرابلس مع خالد محيي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة المصرية، قال، لقد كان الرئيس جمال عبد الناصر زعيماً كبيراً، أما الرئيس أنور السادات، فقد كان داهية سياسية دون منازع. لم ينافس على المناصب، وكان يقبل بالمكان الذي يضعه فيه المعلم جمال عبد الناصر طائعاً صامتاً. أعطى ابنه الأول اسم جمال، وكتب له كتاباً بعنوان «يا ولدي هذا عمك جمال». انفرط عقد مجلس قيادة الثورة، بعدما صار جمال عبد الناصر الزعيم الأوحد، وله وحده القرار، ولم يبق معه من الأعضاء سوى أنور السادات وحسين الشافعي. عيّن حسين الشافعي نائباً له. بقرار مفاجئ عيّن عبد الناصر السادات نائباً له، دون أن يحدد من هو النائب الأول ومن هو الثاني. رشحت أخبار تقول إنَّ جمال عبد الناصر وصلته معلومات استخباراتية، قبيل مغادرته إلى الرباط للمشاركة في مؤتمر القمة العربي في شهر ديسمبر (كانون الأول) سنة 1969، تفيد بأنه قد يتعرض لمحاولة اغتيال في الرباط، فقرر تعيين السادات نائباً له. لكن أعتقد أن تسريب هذا التبرير، كان الهدف منه الغمز في مدى ثقة عبد الناصر في قدرات أنور السادات القيادية، وكان أحد الصحافيين المصريين الكبار، المقرب من جمال عبد الناصر، هو مدبّج ذاك الغمز. السادات كان هو الأقرب إلى الرئيس جمال عبد الناصر في شهوره الأخيرة، حين تمكّن منه المرض، ونالت منه جروح الهزيمة. يقضي جمال عبد الناصر وزوجته تحية أمسياته مع السادات وزوجته جيهان في بيته. السادات يطوف به في تاريخ الحروب بما فيها من انتصارات وانكسارات، والقادة العظماء الذين ينهضون بقوة من رماد الضربات. خسارة ونستون تشرشل عندما كان وزيراً للبحرية البريطانية في الحرب العالمية الأولى في موقعة غاليبولي بتركيا، وانسحابه مهزوماً في موقعة دنكرك، في الحرب العالمية الثانية، وفي الختام قاد بريطانيا وحلفاءها إلى النصر على هتلر وموسوليني. رسما معاً رؤية المستقبل السياسية، واتفقا على أن الحل في الصراع مع إسرائيل، لا بد أن يكون سياسياً، وأن إزالة آثار العدوان واستعادة سيناء هي هدف مصر الأكبر، وأن أميركا بيدها أوراق الحل. في مثل هذا الشهر من سنة 1971، كنتُ طالباً بجامعة القاهرة، وعشت معركة السادات الأولى، مع ما سُمي مراكز القوى، وهم مجموعة الرئيس جمال عبد الناصر. توافقوا في البداية على دعم تولي أنور السادات رئاسة الجمهورية بعد رحيل عبد الناصر. حسبوه ضعيفاً ومن السهل السيطرة عليه وتوجيهه. لكنه يوم الخامس عشر من مايو (أيار) في تلك السنة تمكن بدهائه، من عزلهم جميعاً وهم من كانوا يتحكمون في كل مفاصل الدولة، وألقى بهم في السجون، وشكَّل منظومة عهده الجديد السياسية والعسكرية والإدارية. بدأ في التعبئة الشاملة للمعركة مع إسرائيل، وخاض معها معركة التضليل الاستراتيجي. وفي السادس من أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1973، تألق الجنرال أنور السادات وهزَّ العالم بتدمير خط بارليف الإسرائيلي، واندفاع الجيش المصري إلى سيناء. وبالدهاء والجرأة السياسية استعاد كامل سيناء. قال سياسي إسرائيلي: لقد استغفلنا الرئيس أنور السادات، أعطانا ورقة وأخذ مقابلها شبه قارة سيناء.


عبد الرحمن شلقم
وزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية - الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.

قراءة المزيد

كَبدٌ مَقرُوحَةٌ وَعَينٌ لَا تُعَار!

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

مَنْ ذَا يُعِيرُكَ عَيْنَهُ تَبْكِي بِهَا؟ أَرَأَيْـتَ عَـيْنًا لِلْـبُكَاءِ تُعَارُ؟

هَذَا بَيْتُ شِعْرٍ آسِرٌ، لِلشَّاعِرِ النَّجْدِيِّ: العَبَّاسِ بْنِ الأَحْنَفِ، يُبْدِعُ فِيهِ بِتَنَاوُلِ مَعْنًى لَطِيفٍ، لَمْ يُطْرَقْ قَبْلَهُ.

لَقَدْ أَكْثَرَ العُشَّاقُ الحَدِيثَ عَنِ الدُّمُوعِ، وَلَكِنَّهُ هُنَا، يَتَكَلَّمُ عَنِ النُّضُوبِ... عَنْ بُكَاءٍ طَالَ، حَتَّى لَمْ تَبْقَ عَيْنٌ تَبْكِي... فَيَقُولُ مَا مَعْنَاهُ:

أَمَا فَكَّرْتَ أَنْ تَسْتَعِيرَ عَيْنًا؟ لَا بَأْسَ، وَلَكِنْ مَنْ يُعِيرُكَ عَيْنَهُ؟... أَرَأَيْتَ عَيْنًا لِلْبُكَاءِ تُعَارُ؟ لَمْ يَقُلْ: تُعَارُ لِلْبُكَاءِ، بَلْ قَالَ: لِلْبُكَاءِ تُعَارُ. فَالْبُكَاءُ هُوَ سَبَبُ الْإِشْكَالِ، وَلَيْسَ الْإِعَارَةُ.

وَمَا قَامَتِ الْقَضِيَّةُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ دُونَ شَكّ!

لَا يَقُولُ إِنَّ الْعُيُونَ لَا تُعَارُ، بَلْ يُخَصِّصُ الْإِعَارَةَ لِلْبُكَاءِ بِسُؤَالِهِ الِاسْتِنْكَارِيِّ، لِأَنَّ بُكَاءً عَلَى هَذَا النَّمَطِ هُوَ أَقْصَى حُدُودِ الْإِعْيَاءِ.

لَقَدْ قَالَ فِي صَدْرِ الْبَيْتِ:

مَنْ ذَا يُعِيرُكَ عَيْنَهُ تَبْكِي بِهَا؟

إِذْ هُوَ مُتَعَاطِفٌ مَعَ مَنْ يُخَاطِبُهُ، مُتَفَاعِلٌ مَعَ مُشْكِلَتِهِ، فَابْتَدَأَ بَيْتَهُ بِالتَّفْكِيرِ الْعَمَلِيِّ فِي الْحَلِّ، مِمَّا اقْتَضَى سُؤَالَهُ، السَّابِق!

وَمِنَ التَّجَنِّي عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ، زَعَمَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى، أَنَّهُ أَخَذَ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَلِي كَبِدٌ مَقْـرُوحَةٌ مَنْ يَبِيْعُنِـي بِهَا كَبداً لَيْسَتْ بِذَاتِ قُـرُوْحِ

أَبَى النَّاسُ وَيْحَ النَّاسِ أَنْ يَشْتَرُوْنَهَا وَمَنْ يَشْتَرِي ذَا عِـلَّـةٍ بِصَحِيْحِ

مَقْرُوحَةٌ: أَيْ مَجْرُوحَةٌ. وَقُرُوحٌ: جُرُوحٌ. وَأبَقَى عَلَى النُّونِ فِي (يَشتَرُونَهَا) لِلضَّرُورَةِ الشّعْرِيَّة، أَيْ أنَّه لَوْ لم يبقها لاخْتَلَّ وَزْنُ البَيْتِ.

وَالْبَيْتَانِ لِابْنِ الدُّمَيْنَةِ عَلَى الْأَرْجَحِ، وَيُنْسَبَانِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِمَجْنُونِ لَيْلَى، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ لِلْحُسَيْنِ بْنِ مُطَيْرٍ الْأَسَدِيِّ.

وَرُغْمَ الْخِلَافِ فِي قَائِلِ الْبَيْتَيْنِ، فإنَّ أَحَداً لَمْ يَقُلْ بِنِسْبَتِهِمَا إِلَى الْأَخْطَلِ الصَّغِيرِ، قَبْلَ أُسْتَاذِنَا سَمِيرِ عَطَا اللهِ، فِي مَقَالِهِ يَوْمَ الأحد 11 مَايُو 2025، وَفِيهِ اشْتَكَى «الِانْسِدَادَ»، وَلَعَلَّهُ سَبَبُ رِوَايَتِهِ الْبَيْتَ قَائِلًا:

وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ مَنْ لِي بِكَبِدٍ لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرُوحِ

وَيَبْدُو أَنَّ «الْمَقْرُوحَ» هُوَ وَزْنُ الْبَيْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ الأُسْتَاذُ، وَقَاهُ اللهُ شَرَّ كُلِّ انْسِدَادٍ وَمَقْرُوحٍ.

وَالْأَخْطَلُ الصَّغِيرُ، هُوَ الشَّاعِرُ اللُّبْنَانِيُّ، الْفَحْلُ الْمَطْبُوعُ؛ بِشَارَةُ عَبْدِ اللهِ الْخُورِي (1885 – 1968)، وَأَحْسَبُ أَنَّ الْأُسْتَاذَ سَمِيرَ نَسَبَ لَهُ الْبَيْتَ لِحُضُورِ مُفْرَدَةِ (الْكَبِدِ) فِي شِعْرِهِ. فَلَهُ قَصِيدَةٌ يَحْكِي فِيهَا قِصَّةَ وَلَدٍ غَرِقَ فِي غَيَاهِبِ السُّكْرِ، فَمَا وَقَفَ مَعَهُ غَيْرُ أُمِّهِ، الَّتِي نَقَلَ لَنَا الشَّاعِرُ أَحَاسِيسَهَا، بِالْقَوْلِ:

قَالَتْ لَهُ: نَمْ نَمْ لِفَجْرِ غَدِ ضَعْ رَأْسَكَ الْوَاهِي عَلَى كَبِدِي

نَمْ، لَا تُسَلِّطْ يَا حَبِيبُ عَلَى مَخْمُورِ جِسْمِكَ قِلَّةَ الْجَلَدِ

وَمِنْ قَلَائِدِ قَصَائِدِ الْأَخْطَلِ الصَّغِيرِ، مَرْثِيَّتُهُ فِي أَحْمَدَ شَوْقِي، وَمَطْلَعُهَا بَدِيعٌ، يَقُولُ فِيهِ:

قَالَ الْمَلَائِكُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُمْ:

هَذَا هَوَى الشَّرْقِ هَذَا ضَوْءُ نَاظِرِهِ

وَكَانَ شَوْقِي سَأَلَ الْأَخْطَلَ الصَّغِيرَ أَنْ يَرْثِيَهُ، فَجَاءَتِ اسْتِجَابَةُ صَدِيقِهِ وَجَعاً فِي كَبِدِهِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ كَبِدًا مَقْرُوحَةً، فَقَالَ خَاتِماً مَرْثِيَتَهُ:

سَأَلْتَنِيْهِ رِثَاءً خُذْهُ مِنْ كَبدِي

لَا يُؤْخَذُ الشَّيْءُ إِلَّا مِنْ مَصَادِرِهِ!

وَإِذَا كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ يَتَسَاءَلُ بِحَسْرَةٍ:

مَنْ ذَا يُعِيرُكَ عَيْنَهُ تَبْكِي بِهَا؟

فَإِنَّنَا نَجِدُ فِي بَيْتٍ بَدِيعٍ لِلصِّمَّةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْقُشَيْرِيِّ تَعَامُلاً مُخْتَلِفاً مَعَ فِعْلِ الْبُكَاءِ:

بَكَتْ عَيْنِي الْيُسْرَى فَلَمَّا زَجَرْتُهَا

عَنِ الْجَهْلِ بَعْدَ الْحِلْمِ أَسْبَلَتَا مَعَا

إِنَّ فِعْلَ (الزَّجْرِ) فِي البَيْتِ يَحْمِلُ مَعْنًى أَعْمَقَ مِنْ مُجَرَّدِ الْمَنْعِ، فَهُوَ يُشِيرُ إِلَى التَّأْنِيبِ وَالنَّهْرِ. وَاستدعى زَجْرَ عَيْنِهِ، لِأَنَّهَا اسْتَمْرَأَتِ البُكَاءَ وَهِيَ عَالِمَةٌ بِضَرُوْرَةِ وَقْفِهِ.

إِنَّ بُكَاءَ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، بَعْدَ التَّحَلِّي بِالْحِلْمِ، يُنْظَرُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْجَهْلِ، أَوِ الْخِفَّةِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الرَّدْعَ...

لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُسفِرْ عَنْ مُرَادِ الزَّاجِرِ، إِذْ تَدَاعَتِ العَيْنُ اليُمْنَى لِلبُكَاءِ مَعَ اليُسْرَى، حَتَّى لَا تَحْتَاجَ إِلَى اسْتِعَارَةِ عَيْنٍ لِلبُكَاءِ...

أَرَأَيْتَ عَيْنًا لِلْبُكَاءِ تُعَارُ؟!


تركي الدخيل

قراءة المزيد

الأميركي الذي حدّث القصيدة

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

أصعب الأشياء في الزاوية اليومية هو الحيرة. ليس في قلة المواضيع، بل في كثرتها. وليس في أذواق القراء، بل في تعددها. وكيف تستطيع أن تحصر مواضع الاهتمام، خصوصاً في جريدة هي حقاً صحيفة جميع العرب، على اختلاف منابعهم ومشاربهم. عدد من الزملاء والأصدقاء يصرّ عليّ منذ سنوات أن أكرّس حيِّزاً دائماً للكتب بسبب كثرتها في حياتي. وأن أتوقف عند تلك الأعمال الأدبية التي غيرت في حياة الإنسان والتاريخ الإنساني، كمثل الشعر الحديث، أو الرواية الروسية، أو السوريالية الفرنسية. وكيف، مثلاً، كانت حياة دوستويفسكي أكثر مأساوية وفظاعة من أي رواية كتبها، أو كان يمكن أن يكتبها.

سوف أحاول، بين فترة وأخرى، القيام برحلة في أعماق الأدب الكبير. أن أعود إلى ذوي الأسماء الذين غيروا مفهوم العالم إلى الأبد، متمنياً أن تكون المحاولة على خير ما تحب النفوس، بادئاً بالرجل الذي أعطى الشعر الحديث لقبه... وحداثته.

القرن الماضي كان الأكثر ازدهاراً سواء بما ظهر من بدايات الشعر الحديث، أو أواخر جماليات الشعر التقليدي. والحداثة لم تكن فقط في الصياغة والشكل وإغفال الأوزان والقوافي، بل في حركة حداثية عامة متعددة التيارات والأساليب. ومع الحداثة في الأدب، نشأت تيارات سياسية كثيرة، كان أبرزها الاشتراكية، التي أهلكها الجمود أو الجلمود الشيوعي. إذ كيف يمكن أن تكون حداثة من دون حرية؟ شهدت حركة الحداثة في العالم العربي بعد الخمسينات حيوية طفولية، لكنها جمالية أيضاً. وبسبب رعاتها الأوائل: أدونيس، ويوسف الخال، ومحمد الماغوط، وأنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وخليل حاوي، وتوفيق صايغ، اندفع كتّاب تلك المرحلة في بناء مدرسة صغيرة ومتواضعة. ومنهم تعرفنا إلى أركان المدرسة الشعرية المؤسسة مثل عزرا باوند، وتي إس إليوت، الذي أهدى إلى باوند «الأرض اليباب» أجمل قصائد القرن الماضي. كانت «شعر» تختار لنا شعراء نقرأهم ونحبهم. ولا أدري لماذا أهملت عزرا باوند ومرتبته. لكن كل ما قرأت عند النقاد والأدباء، فيما بعد، يعلي شِعره إلى حد بعيد. وكم هو مغرٍ أن تقرأ قصة الشعر الحديث بدءاً منه، وبالتحديد، من منزله الذي تحول إلى متحف في إيطاليا.

إلى اللقاء...


سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».

قراءة المزيد

القيم السعودية بعيون ترمب

Write in Arabic an excerpt that does not exceed 150 characters, including spaces:

حينَما اعتلى الرئيس الأميركي دونالد ترمب منصة المنتدى السعودي - الأميركي في الرياض أولَ من أمس، أدلى بشهادةٍ مهمة وهو يخاطب الحاضرين. ولم تكن في شهادته هذه أي مجاملة أو مداراة حين قالَ إنَّ «السعودية الرائعة بُنيت بأيادٍ سعودية وبثقافةٍ عربية».

لم تكن تلك الجملةُ مجردَ إشادة، بل إعلانٌ لفهمٍ أميركي جديد لطبيعةِ العلاقة مع دولةٍ تمضي إلى المستقبل بخطىً ثابتة من دون أن تتخلَّى عن إرثها، أو تنزعَ عباءتَها الأصيلة.

هذا التصريحُ لم يكن بروتوكولياً أو كلاماً عابراً في خطاب رئيس جاء في زيارةٍ تاريخية، بل كانَ ترسيخاً لمبدأ سعودي ثابت، وهو أنَّ القيم ليست موضعَ نقاشٍ، واحترامَ قيم الشعوب وأعرافها وتقاليدها مبدأ راسخ بل شرط لبناء الثقة واستمرار الشراكة.

إنَّها المرةُ الأولى التي يقرُّ فيها رئيسٌ أميركي بهذه المباشرة أنَّ السعودية لم تُبنَ بشعارات مستوردة، ولا بتدخلات ناعمة، بل بأيدي رجالِها، وبعقولهم، وقيمِهم، وقراراتِهم المستقلة.

لقد جاءَ هذا التصريح بمثابةِ الإجابة غير المباشرة عن السؤال المطروح دائماً في أروقة السياسة الأميركية وهو: «ماذا تريد السعودية. الجواب لم يصدرْ هذه المرة من الرياض، بل من واشنطن نفسِها، حينَ قالَ ترمب ضمناً: نحترم خصوصيتكم... أنتم تريدونَ الاحترامَ... وتستحقّونه».

هذا التوصيفُ من ترمب لم يكن معزولاً عن مسارٍ جديد تشقُّه السَّعودية بثقة، فالمملكةُ العربية السعودية لم تستجدِ دعماً، ولم تنتظرْ توجيهاً، بل تبني تحالفاتِها وتعيد تعريفَ موقعها في العالم بلغتِها الخاصة، وأدواتِها، ومنطقِها السيادي، فهي لا تمرُّ بمرحلةِ انتقال، بل تعيش مرحلةَ إثبات، حيث تتحدَّث المنجزات نيابةً عن الخطابات، ويقف القرارُ الوطنيُّ في مواجهة كل محاولات الإملاء.

ولعلَّ من اللافتِ أنَّ هذا الاعتراف العلني من ترمب، جاء بعد سنواتٍ مع لحظةٍ سياسية أخرى لا تقلّ أهمية، حين استقبلَ الأمير محمد بن سلمان وليُّ العهد السعودي الرئيسَ الأميركي السَّابق جو بايدن في جدة، ففي ذلك اللقاء، الذي نقلتْ تفاصيلَه وسائلُ الإعلام العالمية، لم يكنِ الخلافُ على الملفات هو مركزَ الحدث، بل كانَ الجوهر هو «القيم»، فحينمَا حاول بايدن طرحَ موضوعِ القيم من منطلقِ الموقف الأميركي، جاءَه الرَّدُ من الأمير محمد بن سلمان بأنَّ لكل دولةٍ وشعب خصوصيتَهما، وأنَّ القيمَ لا تُفرض من الخارج، ولا تُختزل في خطابٍ سياسي، قائلاً: «من المهم معرفة أنَّ لكل دولة قيماً مختلفة ويجب احترامها».

كانَ ذلك الموقفُ امتداداً طبيعياً للرسالة السعودية بأنَّها ليست دولةَ ردود أفعال، بل دولةُ مواقف تُبنَى على قاعدةٍ من السيادة، والاعتزاز بالهُوية، واستقلال القرار.

منذ اللقاءِ التاريخي بين الملك عبدِ العزيز والرئيسِ روزفلت على ظهر البارجة كوينسي، والسعوديةُ ترسم علاقتَها مع واشنطن على قاعدة: «نريد الصداقة... لا التبعية»، واليوم، بعد عقودٍ من التحولات، يعيد ترمب رسمَ هذه المعادلة، ويضيفُ إليها بُعداً جديداً يعترفُ فيه بعمقِ الهُوية السعودية وثقافتِها الراسخة.

خطابُ ترمب لم يكن إشادة، بل اعتراف بأنَّ السعودية لم تعد الحليف الذي يُقرأ من الخارج، بل الشّريك الذي يكتب موقعه ومكانتَه من الداخل، ففي لحظةٍ يُعاد فيها رسمُ خرائط القوة، وتُختبر فيها حدودُ السيادة، تؤكّد السعوديةُ أنَّها لم تغيّر ثوابتَها لتكسبَ الأصدقاء، بل ثبتت موقعَها، فاحترمها الجميع.

التحالفاتُ لا تُبنى بالوصاية... بل بالاعتراف، والسَّعودية لم تطلب من ترمب أن يعترف، لكنَّه فعل... وهذا هو الفارق.


زيد بن كمي
نائب المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث». تولى منصب نائب رئيس تحرير «الشرق الأوسط» التي عمل بها لنحو 20 عاماً. وعمل محاضراً غير متفرغ للإعلام في جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض. وهو حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة الملك سعود والماجستير من جامعة كيل البريطانية.

قراءة المزيد